بلاويكم نيوز

غزة وغياب المشروع العربي “سؤال الواقع والممكن”

0

بقلم : د. حمزة الكناني ..

ما يميز السياق العالمي المعاصر بروز مشاريع كبرى فيه، مثل: المشروع الأمريكي، والمشروع الروسي، والمشروع الصيني، والمشروع الياباني، والمشروع الإيراني، والمشروع التركي، والمشروع الإسرائيلي، وما إلى ذلك من مشاريع. فالسياق العالمي المعاصر طافح بالمشاريع الكبرى التكاملية، وتشتغل هذه المشاريع وفق عدة مناحي:
المنحى الأول: وهو منحى يركز على السياق الداخلي، من خلال بناء دولة نموذجية قائمة على المؤسسات الفاعلة والتشاركية السياسية، مع التركيز على إنشاء المراكز البحثية اللوجستية مثل مؤسسة راند البحثية الامريكية، إذ وعت هذه الدول صاحبة المشاريع بدور المعرفة وبناء الانسان في تحقيق مشاريعها واستمراريتها. المنحى الثاني: وهو منحى يهتم بتطوير البنية العسكرية تصنيعاً وتسليحاً، كامتلاك سلاح نوعي رادع، وأقمار صناعية، قيادة تحالفات عسكرية، فالمحافظة على المشاريع الكبرى يتطلب في وجه من وجوهه بنية عسكرية رادعة وتحالفات قوية، مثل الناتو وكواد وغيرها تزيد من الثقل اللوجستي لهذه الدول.
المنحى الثالث: وهو منحى توسعي، يسعى للهيمنة على المناطق المحورية التي تخدم غايات أصحاب المشاريع اقتصادياً، إما ببناء تكتلات اقتصادية على غرار البريكس والG7 وغيرها أو بتقديم المنح والقروض، وبناء القواعد العسكرية، وحتى الاستفادة من شركات الخدمات الأمنية على غرار الفاغنر الروسي والبلاك ووتر الأمريكية وغيرها، فهي تساهم في تنفيذ عمليات تسفيد منها دول تلك المشاريع. المنحى الرابع: وهو منحى ثقافي، يتمحور حول دور الهيمنة الثقافية للدول صاحبة المشاريع في ترسيخ مشاريعها في البنية الذهنية للشعوب، كالدور الكبير التي تقدمه أفلام هوليود، والدراما التركية، والانيمي الياباني، وغيرها لصالح الدول صاحبة المشاريع، أي نحن أمام مشاريع كبرى عالمياً يشتغل كلّ مشروع منها وفق مناحي مختلفة، لتتضافر هذه المناحي بين بعضها البعض خالقة بنية مشروعية كبرى.
وفي هذا السياق، لا ننكر التمايز الرؤيوي بين هذه المشاريع، فكل دولة من الدول تنطلق من بنية رؤيوية محددة تتمايز من البنى الرؤيوية للدول صاحبة المشاريع الأخرى، بيد أنّه على الرّغم من هذا التمايز الرؤيوي للدول صاحبة المشاريع، فإنّ هذه الدول تشترك في مقولات محددة تنهض عليها مشاريعها، مثل: تحقيق النهضة الشاملة، والحس التوسعي الخادم للمشاريع، والهيمنة الثقافية على السياقات الدولية والشعبية المختلفة.
والمتتبع لموقع الوطن العربي من هذه المشاريع الكبرى يلحظ الآتي:
أولهما: غياب بنية لمشروع كبير شامل، ويُستشف هذا من خلال مقابلة مناحي المشاريع الكبرى مع سياقات الوطن العربي، فعلى صعيد المنحى الداخلي نلحظ غياب الدولة الديمقراطية المؤسسية العربية المركزة على بناء مراكز بحثية فاعلة. وعلى صعيد المنحى العسكري، نجد أنّ الدول العربية مستهلكة للإنتاج العسكري للدول صاحبة المشاريع الكبرى. ومن ناحية المنحى التوسعي الاستراتيجي، فتغيب عن الدول العربية أية رؤى توسعية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، بل هي دول محط توسع الدول صاحبة المشاريع الكبرى. وفيما يخص المنحى الثقافي، فنرى أنّ الدول العربية موضعاً للهيمنة الثقافية للدول الكبرى أصحاب المشاريع، وذلك على حساب تهميش البنية الثقافية العربية في مقولاتها المحورية. ثانيها: إنّ السياق العربي لا يتسم بغياب البنية المشروعية فحسب، بل هو أيضاً محط تنافس للسياقات المشروعية الكبرى عالمياً، فكلّ مشروع من هذه المشاريع يتنافس مع المشاريع الأخرى لإيجاد موطئ قدم في السياق الجغرافي العربي ليحقق أهدافه المشروعية الكبرى.
ثالثها: إنّ المشاريع الكبرى العالمية تتغذى في أساسها على السياقات السلبية للوطن العربي، إذ غدا الواقع العربي المتأزم والطافح بالانقسامات الدولية أداة تحقق من خلالها الدول صاحبة المشاريع مقولاتها المشروعية الكبرى، فلبناء هذه الدول سياق مشروعها الكلي والتكاملي تحتاج فيما تحتاجه لسياق دولي ضعيف قادرة على الاستفادة منه وتطويعه، بل إنّ بعض هذه الدول ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية خلقت بحسب ما يذهب إليه “زبيغنيو بريجنسكي” في كتابه “رؤية استراتيجية – أمريكا وأزمة السلطة العالمية” ما يُدعى بقوس الأزمات، وهو مؤلّف من مجموعة من الدول في محورها دول المنطقة العربية، وتتسم هذه الدول بأنّها دول ذات بُنى رجعية هشّة، ومليئة بالصراعات العرقية والدينية، مع امتلاكها ثروات هائلة وموقع جيوسياسي مميز، بحسب تعبير “ماكيندر” الشهير “قلب العالم”، واستراتيجية أمريكا في هذا القوس الطافح بالأزمات إدارة الصراعات بما ينسجم مع مصالحها، فإذا كانت هذه الصراعات تخدم مشروعها الكبير فإنّها تدعمها وتذكيها، وإذا كانت متناقضة مع مصالحها فإنّها تقضي عليها وتلغيها. رابعها: قد نجد بعض الدول العربية مثل السعودية أو مصر تحاول وضع سياق مشروع خاص بها، قائم على رؤية محددة ومستفيد من سياقات تحالفية عدّة، بيد أنّ هذه المشاريع تبقى في النطاق الدولي الضيق، ولا تتجاوزه نحو سياق مشروع كبير وشامل، جامع للسياقات الدولية ضمن المنطقة العربية.
ونحن في هذا السياق لا ننكر أهمية هذه المشاريع، بيد أنّنا نؤكد على ضرورة وجود بنية مشروعية رؤيوية وشاملة قادرة على توحيد أكبر قدر من السياقات الدولية العربية رؤيوياً.
وسابقاً، امتلكت بعض الدول سياقات مشروعية خاصة، ولا سيما مشروع العراق في عهد صدام حسين، إذ اشتغل على مستويات مختلفة محاولاً تحقيق رؤيته الخاصة لسياق دولة العراق، بيد أنّ هذا المشروع لم يكن مشروعاً متكاملاً، فهو وإن اعتنى بالجانب السيادي والعسكري، فغدا الجيش العراقي رابع أكبر جيش في العالم، بيد أنّه همش جانب بناء الدولة الديمقراطية النموذجية الداخلة في سياقات تعالقية إيجابية مع الدول المجاورة، ما أفضى إلى فشل هذا المشروع وارتداده ارتداداً نكوصياً في عام 2003، عام غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق.
خامسها: إنّ غياب فكرة المشروع العربي الكبير لا نجده في السياق الدولي العربي فحسب، بل نجده أيضاً في سياقات جغرافية دولية أخرى، ولا سيما السياق القاري الأفريقي. سادسها: يُلحظ غياب السياقات التحالفية بين الدول العربية على المستويات الاقتصادية والعسكرية، بل إنّ هذه الدول تقيم سياقات تفاعلية تحالفية مع الدول الأخرى صاحبة المشاريع الكبرى، ما يؤخر تبلور بنية المشروع العربي الكبير وظهورها.
سابعها: امتلاك السياق الدولي العربي لمقومات لوجستية واقتصادية مركزية تمكّنه من بلورة بنية المشروع العربي الكبير، بيد أنّ هذه المقومات لا تُستخدم بآلية خاصة تنقل من البنية العربية من السياق الآني المُتأزّم إلى سياق المشروع الرؤيوي الكبير. أولاً: في العوامل المضمرة لغياب المشروع العربي الكبير إنّ غياب المشروع العربي الكبير على الرّغم من توافر عناصره البشرية والجغرافية واللوجستية يحفز على طرح سؤال محوري حول الأسباب المضمرة لغياب هذا المشروع في ظل وجود مشاريع أخرى عالمية، حاضرة على أرض الواقع ومحققة خطوات هائلة ومتقدمة. وفيما يلي سنحدد أبرز هذه المضمرات، موضحين دورها المركزي في عدم بلورة أي بنية مشروعية عربية كبرى. 1 التنافض القائم بين فكرة الزعامات الضيقة وفكرة المشروع العربي الكبير: إنّ بناء أي مشروع عالمي كبير يتطلب بالدرجة الأولى التخلي عن الأنانية والمصالح الشخصية الضيقة، فأهداف المشاريع الكبرى عموماً تتناقض مع أهداف الزعامات الفردية ومصالحها الديكتاتورية المحدودة، ما يمنع من تشكل أي مشروع كبير ولوجستي في ظل هيمنة زعامات ديكتاتورية.
ويتسم السياق السلطوي العربي في عمومه بهيمنة السلطات الديكتاتورية عليه، وهذه السلطات ما يهمها بالدرجة الأولى المحافظة على البنية الديكتاتورية القائمة، ما يمنعها من التفكير في أية مشاريع نهضوية كبرى، قد تؤدي في حال تحققها إلى تهديد السلطة الديكتاتورية وإزاحتها عن الحكم، لتموضع سياق سلطوي جديد يفرزه المشروع الجديد.
2_ السياقات الاستعمارية المستمرة: ما أن تخلص الوطن العربي من الاستعمار العثماني الذي دام قرابة الأربعمئة عام حتى تعرض لسياق استعماري أوروبي جديد هيمن عليه، وأفرز سياقات تحررية عربية نضالية سعت إلى تجاوزه لبناء الدولة العربية الجديدة. وبتخلص الوطن العربي من السياق الاستعماري الأوروبي تعرض لمجموعة إشكالات يمكن أن نجملها بالآتي:
تموضع سياقات سلطوية جديدة ذات طبيعة ديكتاتورية تشكل امتداداً للسياقات السلطوية الاستعمارية. تحول الوطن العربي إلى موضع نزاع للقوى الكبرى الممتلكة مشاريع عالمية: ما يعني أنّ السياق الدولي العربي لم يمتلك أي فترة استقرار نموذجية تمكنه من التفكير في بناء مشروع كبير.
تبلور شخصية عربية قابلة للاستعمار: وذلك كما ذهب مالك بن نبي إذ يرى أنّ الاستعمار نفسه يحرص على غرس فكرة التبعية الطبيعية في عقول أبناء المستعمرات بما يسميه مركب التبعية، وهو ما حاول بعض المستشرقين الترويج له، لكن الفرق شاسع بين مركب التبعية هذا الذي يعبر عن حالة ركود وجمود نتيجة تطور نفسي طبيعي تلقائي، والقابلية للاستعمار حالة ركود نتيجة نكسة اجتماعية، فإذا كانت أزمة التبعية أزمة نفسية بالدرجة الأولى، فإنّ أزمة القابلية للاستعمار أزمة اجتماعية. وبالتالي للتخلص من الاستعمار لا بدّ أولاً من التخلص من قابلية الاستعمار، ولا يقصد مالك بن نبي بالتخلص من الاستعمار هنا مجرد إخراجه عسكرياً، أي الاستقلال السياسي فقط، وإنما يعني الاستقلال الحضاري الشامل، وهذا لا يكون من خلال اتباع المقولات الآتية، المراجعة النقدية للموروث، وإعلاء شأن العقل، وإعادة النظر بالمنظومة التعليمية العربية، والتركيز على السياقات المعرفية والبحثية. 3غياب ثقافة الرؤية الكلية: يتسم السياق السلطوي العربي القائم بعدم قدرته على بناء رؤى جذرية، نابعة من السياقات الآنية بإشكالياتها وتحدياتها ومنطلقة نحو سياقات مستقبلية نموذجية، بل إنّ الرؤى التي يفرزها السياق السلطوي العربي هي رؤى جزئية مهتمة بسياقات تفصيلية غير مركزية. وغياب هذا البعد الثقافي الرؤيوي عن السياق العربي له دور مهم وفاعل في عدم التفكير بسياق مشروع عربي كلي وشامل.
بناءً على ذلك، فإنّ المشروع العربي الكبير والممكن يواجه تحديات كبرى تمنع من تبلوره، من بينها السياقات السلطوية الديكتاتورية، المتضاربة مصالحها مع مصالح المشروع العربي الكبير، والسياقات الاستعمارية التراكمية التي لم تمنح الوطن العربي فرصته لبناء مشروعه الخاص، وغياب الثقافة الرؤيوية العربية المتطلعة نحو تجاوز السياقات القائمة نحو سياقات مستقبلية نموذجية، وتمسك البنية الذهنية السلطوية العربية بسياقات رؤيوية جزئية.
ثانياً: انعكاسات غياب المشروع الكبير في الواقع العربي
إنّ الحضور الممكن للمشروع العربي ليس ترفاً، وذلك لأنّ انعكاسات غيابه هائلة في المنطقة العربية، فغياب هذا المشروع وعدم تبلوره أو تكوّنه أفضى لعدد من النتائج:
خضوع المنطقة العربية لسياقات سلطوية دكتاتورية، فمن شأن حضور هذا المشروع تهميش المد الديكتاتوري العربي، وبناء سياقات وطنية دولية ذات طابع ديمقراطي تركز على السياقات المعرفية المفرزة مؤسسات بحثية نموذجية وفاعلة. وقوع الوطن العربي بمختلف دوله بين مشاريع كبرى تسعى للهيمنة عليه وفق مختلف الوسائل، فعدم تكوّن مشروع عربي نموذجي ومركزي سيؤدي إلى استمرار تموضع الوطن العربي في مفترق طرق بين سياقات المشاريع الكبرى، وتكوّن هذا المشروع الجذري سيجعله مشروعاً موازياً ومنافساً للمشاريع الكبرى، ما يمنع استمرار مد الهيمنة على السياق العربي.
استمرار الحالة الاستهلاكية العربية، فغياب المشروع العربي الكبير والمنتج سيُبقي الوطن العربي مستهلكاً لمفرزات المشاريع الكبرى بمختلف أنواعها، في حين أن تبلور هذا المشروع سينتقل بالوطن العربي من السياق الاستهلاكي السلبي إلى السياق المنتج الإيجابي. بل لو تبلور المشروع العربي واقعياً في السياق الآني، لما كانت السياقات الإشكالية الحربية على وضعها الراهن في غزة في فلسطين، فغياب المشروع العربي كلّياً على المستويات الضاغطة الحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، أدى إلى تهميش الكيان العربي سياسياً، ومنعه من أي محاولات جادة لإيقاف الدمار الذي يحدث في غزة، فغياب المشروع العربي الجذري منع الدول العربية من أن تكون قوى ضاغطة في السياقات الدولية والعالمية، تتمكن من خلال هذا الضغط من تحقيق مآربها ومصالحها. ثالثاً: في مقومات تبلور المشروع العربي إنّ تبلور المشروع العربي الكبير يتطلب تحقيق العديد من المقولات المحورية التي لا بدّ من أن تفضي إليه: تشكيل الدولة العربية النموذجية، إذ لا يمكن الحديث عن مشروع عربي كبير في ظل الوضع الراهن للدول العربية، بل إنّ هذا المشروع لا يتبلور من دون تكوّن مشروع الدول العربية الوطنية النموذجية، أي بناء مشروع عربي وكبير مرهون بالدرجة الأولى بالسياقات الثورية الفاعلة المعيدة تشكيل سياقات الدول العربية تشكيلاً نموذجياً، ينقلها من السياق الديكتاتوري القائم إلى سياق النقيض المقابل.
ولبناء هذا السياق الدولي الديمقراطي المتفرد لا بدّ من تبلور سياقات ثورية شعبية واعية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ البنية الثورية العربية عملت منذ عام 2011 على إحداث تغيرات جذرية وثورية في السياقات السلطوية العربية، وذلك لبناء سياق دولة جديد يحقق أكبر قدر من المطالب الشعبية، وعلى الرغم من المطبات التي وقعت فيها إلا أنّها خطوة مهمة وفاعلة قد تؤدي في حال نجاحها المستقبلي إلى امتلاك البنى الأولى للمشروع العربي.
بناء سياق عربي معرفي فاعل في السياقات الدولية والعالمية، ينقل الوطن العربي من السياق الاستهلاكي إلى السياق المنتج، فالحديث عن مشروع عربي مركزي لا يكون في ظل الطابع الاستهلاكي القائم، بل إنّ التخلص من هذا الطابع شرط لقيام المشروع وعلامة على تبلوره. تحقيق قيمة موازية للدول الأخرى الممتلكة سياقات مشروعية كبرى، وهذا لا يكون إلا من خلال التركيز على المناحي الإنتاجية الخالقة للسياق العربي مكانة محورية في ظل السياقات الدولية الطافحة بالمشاريع الكبرى.
ومن هنا، فالدول العربية أمام خيارين:
الاستمرار في السياق الراهن والبقاء في ظل مشاريع الآخرين التنافسية مع تغييب إمكانية بناء مشروع عربي رؤيوي وفاعل. العمل على بناء مشروع عربي من خلال الالتزام بالمراحل التي يتطلبها، وهي مراحل كبرى لا بدّ من المرور بها، مثل مرحلة بناء الدولة الوطنية الرؤيوية ومرحلة تكوين الثقافة الإنتاجية، بل يذهب محمد العودات في مقال منشور له إلى أنّ المشروع العربي لا يتحقق إلا بإقناع النخب العربية بضرورة العمل على هذا المشروع، ومن ثم إقناع الشعوب العربية التي يمكن أن تناضل بطريقة سليمة من أجل الخلاص من الاستبداد والتحول إلى الأنظمة الديمقراطية، لينطلق القطار بعد ذلك ويتحقق المشروع العربي الكبير.
4_المعارضة العربية وغياب المشروع العربي: يحضر في السياق العربي السياسي المعاصر سياق يتمركز حول معارضة سياسات الأنظمة العربية، فهو سياق سياسي يرفض الواقع الآني ويتطلع نحو ممكنات سياسية مُستقبلية، تتعارض ولو على الصعيد الشكلاني مع واقعية اللحظة السياسية العربية الراهنة. وما يميز هذا السياق السياسي العربي المعارض أنّه سياق سياسي لا يمتلك في الغالب برنامجاً رؤيوياً شاملاً، ينهض بالواقع العربي وينقله إلى سياقات نموذجية ممكنة، بل إنّ البرامج التي يمتلكها هذا السياق هي برامج شكلية لا تنفصل انفصالاً جوهرياً وكلّياً عن برامج الأنظمة السياسية التي يعارضها، ما أفضى إلى استمرار السياقات العربية على الشاكلة ذاتها، حتى ولو تمكّن السياق السياسي المعارض من الوصول إلى سدة الحكم من خلال الحركة الثورية ضد الأنظمة القائمة.
ومن هنا، فإنّ العناية ببلورة برنامج رؤيوي سياسي شامل قادر على النهضة في السياقات العربية يتطلب في البداية إصلاح البنية الثورية العربية، فالمقولات الثورية العربية تتطلب في جوهرها إصلاحاً ثورياً شاملاً يعيد بلورتها بآلية خاصة تفضي إلى إحداث تحولات في البنية الذهنية العربية تنقلها من السياقات المتسمة بغياب المشاريع الجوهرية إلى سياقات ذهنية أخر تتبنى فكرة بناء مشروع رؤيوي كلي وبلورته.
وفي الختام، إن بناء مشروع عربي كبير وفاعل وموازي للمشاريع الكبرى لا يعني بحال من الأحوال استنساخ المشاريع الأمريكية أو الإيرانية أو اليابانية، بقدر ما يعني بناء مشروع عربي جديد نابع من خصوصية الدول العربية المشكلة له ومتوافق مع مصالحها على المستويين الداخلي والخارجي، فالبناء المشروعاتي ليس بناء تقليدياً متماهياً مع مشاريع الآخرين بل هو بناء تفردي خاص.

-دكتوراه في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية/واشنطن
-باحث وأكاديمي سعودي/واشنطن
-مؤسس منصة (DrHK88@) على تطبيقات إكس/ الفيسبوك/اليوتيوب/ انستغرام

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط