شفرات (حيونسانية ) توظيف سياسي جمالي لمشهدية الحيوان
للكاتب حسين الذكر ..
بقلم .. د. غيثاء علي قادرة
اللاذقية – سوريا
لا تكاد تخلُو ثقافة أي أمة من حكايا الطير والحيوان، سواء أكانت الحكايا بلسانها ، أم وصفًا لمشهديتها ، وأثرها في سيرورة الحياة ؛ إذ ليس خافيًا علينا اضطلاع الحيوانات بدور مهم في تاريخ النثر العربي ،و الأمثال الشعبية والخطب والشعر والقصص التي كانت خير دليل قُدِّم في حوار أو في وصف .
فقد شهد الأدب العربي سرودًا مهمة للحيوان الذي كانت حكايته من أقدم الحكايا على وجه الأرض، ويعد كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع خير دليل على ذلك ، قبل تتالي فيض السرد الحيواني كما جاء في قصص كثيرة استطاع كتابها إيصال أفكارهم وإبلاغ رسائلهم ، وتحقيق أهدافهم المتمثلة في كون الحيوان معادلًا موضوعيًّا للإنسان، وفنيًّا ،عبره يقدمون الصورة ، والحكمة ، كاسرين حواجز اللغة متجاوزين المكان والزمان ، نافذين إلى عقل المتلقين بمختلف مستوياتهم.
أما الكتاب الذي بين أيدينا (شفرات حيونسانية) لمؤلفه الكاتب حسين الذكر فمجموعة قصصية ، او مجموعة نصوص ، أو مدونات نثرية قريبة من السرد القصصي ، يتكون المبنى الحكائي فيها من إحدى وعشرين قصة رئيسة يجمعها نسيج واحد يحدد الرؤية السردية التي يبرز الحيوان فيها قناعًا ،وبديلًا كنائيًّا لأحد رموز الخير والشر.
اجتمع الإنسان مع الحيوان في إحدى وعشرين قصة دلَّت على أثر أحدهما في الآخر من جهة وأهميتهما في بنية التكوين الوجودية من ناحية أخرى.
ثمة علاقة متينة بين القصة والسياق الذي وردت فيه ، حتى إننا نرى أن السياق يشكل رحمًا تتشكل فيه القصة ، وأقنعة ومجازات للتعبير، أو للتوجيه الأخلاقي . حتى غدت كل قصة من قصص الكتاب محورية أو رئيسة، أو قصة إطارية للنسق الذي وردت فيه، وذلك لأنها إطار لما تلاها وما سبقها من حكايات.
تبدو وظيفة معظم القصص البرهنة والاعتراض ؛ إذ نلمح في سيرورة القص تعاقبًا حكائيًّا حرًّا تتشكل على إثره البنية الكبرى للمجموعة القصصية .
ليست القصص في المجموعة إلا ممارسات إبداعية يحضر فيها الحيوان بطلا رئيسا ، لكنه لم يحضر لتنميق الكلام به ، وحشد الشخصيات وتراكم الأحداث وصولًا إلى العقدة فالحل ، إنما جاء لمقصدية معينة ،جاء لتأويل المأثور تأويلاً يتناسب والسياقات الاجتماعية أو التاريخية التي يتم إعادة انتاجه من خلالها.
يقول الكاتب حسين الذكر في مقدمة كتابه يقول:
“هنا أقف حائرًا أمام كم كبير من الأسرار التي لم يستطع العلم فك شفرتها برغم بلوغ عنان السماء المادية فيه .. حتى بعد أن أصبح الإنسان يعيش القرية العالمية بشكل أكثر صدق وفصاحة من خلال عصر العولمة .ها نحن نسير نحو الإنسان محاولين جذب العلماء وأهل الاختصاص لفك شفرات العلاقة الحيوانية وفهم معانيها ومشتركاتها الفعلية مع شريكها الإنسان من أجل البحث عن سبل جديدة لخلاص الانسان وربما الحيوان معا !!” ما يعني أننا أمام كون من الذوات التي برزت أقنعة بها يتقدم هيكل الإنسان الروحي والمادي ، في عصر تناثرت فيه القيم وتبعثرت على مفارق العولمة .
-نسق العنونة : نبدأ من عنوان الكتاب (الحيونسانية) الذي يعد عبارة مفتاحية تنبثق منها النصوص التالية وتشكل جسر عبور إلى عالمها . تقود العبارة القارئ إلى ثنائية طرفاها الإنسان والحيوان الرمز ، والإشارة و أثر كل منهما في الآخر، فلا حياة لأحدهما بعيدًا عن الآخر ، فبهما تكتمل الحياة .
يغلب على الخطاب القصصي الغايةَ التعليمية المقدمة في لغة أدبية فنية ، وإشارية ثقافية تمايزت فيه مشهدية الحيوان من وظيفة توجيهية أدى الرمز فيها مع الإشارة دورًا كبيرًا في عملية التوجيه والتعليم التي تناهت إلى المتلقي في رسالة قِيَمية . وتحضرنا هنا قصة (ما بعد الأغرودة) وهي قصة البلبل الضائع الذي كلَّ وتعب وهو يبحث عنه ، لتأتي حكمة الحياة على لسان عصفورة تعلن أن : لاولادة من غير مخاض ، ولا انبلاج لضوء إلا من بعد ظلمة ليل مدلهم ) ص4 .
يحضر الحيوان -في جلِّ القصص- هنا بديلًا كنائيًا أو معادلًا موضوعيًّا ، أو نسقًا ظاهرًا لآخر مضمر مسكوت عنه ، ففي قصة (خطاب حرباوي)، يقودنا العنوان المكون من كلمتين نكرتين غارقتين في الشمولية والتعميم إلى أهمية المسند إليه،(حرباوي) ويعني تقلب وتلون، وتغير مقرون بخبث .
أما الخطاب فهو محاولة إقناع الآخر بالمسرود ،باعتماد ازدواجية الخطاب ، وثنائية المعايير واختلافها وفق المنفعة والفائدة ، مستخدمًا الأفعى أو الثعبان رمزًا سياسيًّا لعدو يتظاهر بالألفة ، لكنه بارع وضليع في تحقيق هدفه وسحق أعدائه، وبخطابه يحقق ما يريد ،جاء فيها: “هوى الحائط من وقعها ، إلا أن الأفعى ظلت تسير بتؤدة غير معهودة كأن شيئاً لم يكن . الحية ظلت وفية لمبادئها الحرباوية ، لم تلتفت إلى هذا الوغد اللاهي لمحو خط مسار خريطتها الأزلي”ص6 .
وفي ذلك نقع على أصول أسطورية لهذا النوع من الحيوان في بنيته الفنية والإنسانية والمضامين الفكرية التي يعالجها . وفي الأعم الأغلب أسطرَ الكاتب الحيوان ، وهذا النوع نجده في التراث العربي بكثرة .ونلمح على مستوى الأسطورة قصصًا كثيرة في المجموعة تحت العناوين الآتية. مثل ( ثعلبية الإنسان، الخفافيش، شؤم البوم، الهدهد…)
ولا تبتعد الوظيفة السياسية عن مشهدية الحيوان ، الذي برز قناعًا مناسبًا للنقد السياسي،
يستخدم الحيل والمخادعة، لكنه يتيح حرية واسعة في التعبير والنقد السياسي الصريح.
ولا تغيب الوظيفة الجمالية الموضوعية؛ التي تظهر عن طريق إعلان الرغبة في السرد، مما يضمن متابعة قصصية متحمسة ورصينة ويقظة، مثل. قصة (در البقرة) التي جاء فيها:
“منذ تباشير الحياة ودبيبها الحثيث كانت البقرة شريك الإنسان في بيئته ، بل هي من أوائل الحيوانات والآلات التي أسهمت في التشييد التام للحقول والمزارع والمدن .
الماء هو عنوان كل شيء ، والبقرة بقدسيتها المفترضة كمصدر للغذاء والكثير من الخيرات ، لا سيما عند بعض الشعوب ظلت مصدراً للنماء والارتقاء والبقاء”ص54
اعتمد الكاتب أسلوب الإدهاش لإشباع مخيلة المتلقي ، و المألوف من خلال حديث الحيوان في أخطر القضايا .
ففي قصة (خواء في الصحراء) يتحدث فيها عن أهمية البعير في حياة البدوي ، قائلاً:( منبر لحمل الأولياء والصالحين والعلماء والفلاسفة والحكماء ، بل الرموز والعظماء ، فكم من قائد اعتلى صهوة مجده )ص14؟ فترجمان البعير يحتاج إلى قدرة وصبر وحنان بعيري ، وذلك ما يفتقده الإنسان كل إنسان ، بجبل كان أو وادٍ أو شواطئ بحر أو سهل أو رمال متحركة .
إن عملية إنتاج الكتاب كانت عملية إبداعية حقق فيها الكاتب رؤى جديدة تنظر برؤية محددة للعالم والحياة… أضاف فصولاً قصصية تثري البنية الأساسية بقصد الخروج بدلالات متعددة الإيحاء، بالإضافة إلى زوايا الرؤية الجديدة للنصوص..