قوافل الجمال من ” مسعودة” الى كريم منصور
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
سألني صديق عن أسباب تعلقي الشديد بالعمارة – مكاناً وأناساً – بحيث يتخيل لمن يتابع علاقتي بهذه المدينة، أن ثمة مبالغةً في الأمر، أو أن مسّاً عاطفياً يصل حد الهوس، قد أصابني !
لم أجب صديقي وقتها، مفضلاً أن تكون إجابتي واسعة، ومفصلة في مقال خاص، لاسيما وأن هناك من سألني أيضاً عن علاقتي بإيصال أغنيات عمارية الى النجم الكبير سعدون جابر، لذا، ارتأيت أن أوضح أولاً علاقتي بمدينة العمارة، فأنا لا أحب هذه المدينة، لأني ولدت في إحدى نواحيها فحسب، إنما أعشقها أيضاً لأن العمارة والعماريين يجبرونك على أن تحبهم جداً، فأرض العمارة الطاهرة، أرض الخير والعطاء والماء والخصب والخضرة والقصب والاهوار والطيور .. أما العماريون فهم أناس قلّما يجود الزمان بأمثالهم،نقاءً وابداعاً وطيبةً وشهامة ونخوة.
كيف لا، ومن العمارة انطلقت ملاحم الانتفاضات الفلاحية الباسلة، وارتفعت رايات الشهداء فوق سواري المجد، من جرح صويحب حتى (تفگة) حسن الشموس.
ومن العمارة مشت قوافل العبقرية والإبداع والمواهب الفذة نحو العاصمة بغداد، وعواصم العالم حاملة للدنيا أقمار الدهشة ومشاعل الإبهار.
نعم، فمنها خرج عالم الأنواء عبد الجبار عبد الله، والجراح الباهر محمد عمارة، والشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر، والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعرة لميعة عباس عمارة، والناقد مالك المطلبي ، والشاعر عيسى الياسري، والباحث جبار الجويبراوي، ومفخرة الشهادة الوطنية ستار خضير، والقائد الشيوعي الفلاحي فعل ضمد. ومن العمارة خرج الرسام التشكيلي الكبير شوكت الربيعي، والتشكيلي الدكتور صبيح كلش، والروائي محمد شاكر السبع والروائي عبد الرزاق المطلبي، والممثل والمخرج فاضل خليل، وبطل فيلم الحارس الممثل مكي البدري والممثلة انعام الربيعي والشاعر والناقد ريسان الخزعلي، والشاعر والصحفي كاظم غيلان، ونقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي، والمسرحي أبو الحسن صلاح مهدي، والفنان مكي حداد والمخرج عبد الجبار حسن، والشاعر الكبير نعمة مطر، والشاعر صبيح القصاب، والشاعر الشعبي خنجر الشامي، والشاعر الشعبي مطشر المجراوي، والشاعر الشعبي رياض جمعة، والشاعر الغنائي سعدون قاسم، والموسيقي ابراهيم السيد. ومن العمارة كانت المناضلة التقدمية سميرة مزعل أول مصورة محترفة في العراق، ومن بطن أرض هذه المحافظة الولود، ولد الفنانون الكبار مسعودة العمارتلي وسلمان المنكوب وسيد محمد، وداخل الأعمى، وعبادي العماري، وحسين سعيدة، وجويسم ، وگريري، وعودة فاضل، وقحطان العطار وسعدون جابر، وكاظم فندي، ورياض خضر، وقاسم مشكل والفنان عباس مطشر، والموسيقي هاني الحمد، والمطرب كاظم البنا، والمطربة سيناء. ومن العمارة ظهر آخر ما في عنقود الجمال والغناء الوجداني النبيل، وأقصد به كريم منصور..
ويقيناً أن هذا الكنز العظيم من المواهب الفذة، والأسماء الكبيرة، كافٍ لأن يجعل واحداً مثلي فخوراً جداً بمدينته.
نعم، فالعمارة مدينة تتنفس الشعر والفن والابداع، حيث يخفق قلبها مع كل رنة عود، وتشهق روحها مع كل أنة من أنين سيد محمد حين يصرخ : (بعيد الدرب وطروش مامش )..
وفي العمارة ذاتها وليس غيرها افتتحت العام 1931، أول دار للسينما في العراق، باسم (سينما النجاح)، ولعل من ألطف الصدف أن يشاهد والدي (المتدين) رحمه الله، العام 1938 في هذه الدار فيلم محمد عبد الوهاب (الوردة البيضاء) أيام كان الفن (حلالاً زلالاً)، بل وأن يحفظ والدي (أبو خيون ) عن ظهر قلب، نصف سجالات وحوارات ذلك الفيلم !
والآن وبعد كل هذا الجمال، أليس من حق (العمارة) عليّ ، أن أقدم خدمة بسيطة لبعض أبنائها المبدعين؟
نعم، لها كل الحق..
إذن، تعالوا لأروي لكم حكايتي مع كاظم فندي وسعدون قاسم وروائعهما الفنية العمارية لسعدون جابر :
في العام 1982 كنت جندياً في قاطع قلعة دزه في محافظة السليمانية، وكان معي في الوحدة ذاتها ، الشاعر الكبير كاظم اسماعيل الگاطع والشاعر الشيوعي جابر السوداني، وكان معنا أيضاً شاب من مدينة العمارة اسمه سلام الجراح – لم يزل يسكنها –
وفي أحد الأيام من خريف 1982 أسمعني الجندي سلام شريطاً فيه ثلاث أغنيات بصوت وأداء وعزف جميل، وأدركت حالاً أن المؤدي، ملحن وليس مطرباً.
وحين سألته عنه، قال لي بفخر : إنه ابن العمارة الملحن كاظم فندي!
ولأني لم أسمع من قبل بهذا الاسم، قلت له ومن هو كاظم فندي؟
فقال: هو معلم وموسيقي
قلت ومن مؤلف هذه الأغنيات الجميلة ؟
فقال: هي لشاعر اسمه سعدون قاسم!
وللحق، فقد سحرني اللحن، وأبهرني الكلام، وقبل أن أعطي رأيي له، طلب مني سلام أن أسجل رأيي في ظهر الشريط نفسه، مكملاً طلبه بالقول: هذه رغبة الملحن كاظم فندي شخصياً.
فاستجبت لطلبه، وسجلت رأيي بكلمات حلوة تتناسب واعجابي بالاغنيات الثلاث التي سمعتها.
فحمل سلام الشريط في إجازته الدورية، وأوصله الى فندي وسعدون قاسم، وحين عاد أخبرني سلام بما تركه رأيي من ارتياح وفرح لدى الجماعة في مدينة العمارة.
وهنا قررت أن أساعد هؤلاء المبدعين بكل ما أستطيع، وأن أسهم في اطلاق هذه الاغنيات الجميلة، ليسمعها كل الناس في العراق.. فاتفقت مع سلام الجراح على توحيد إجازتنا الدورية القادمة، ونمضي سوياً الى العمارة، وبالفعل فقد تم لنا ذلك، وأخذت سلام معي الى بغداد، حيث بتنا ليلتنا في بيتي بمدينة الثورة، لنغادر الى ميسان معاً في اليوم الثاني، فنلتقي وجهاً لوجه مع كاظم فندي وسعدون قاسم، وبقية مبدعي المدينة..
كان اللقاء بهم رائعاً، وكل شيء جميلاً، لكن المشكلة أن كاظم فندي وسعدون قاسم رفضا الذهاب الى بغداد حين طلبت منهما ذلك، فقد كانا مترددين من الذهاب الى العاصمة، خاصة وأن فندي قد فشل مرة سابقة في تحقيق ما ذهب لأجله في بغداد!
لكني تعهدت لهما بالنجاح وقلت لهما: على مسؤوليتي تأتون هذه المرة..
ونجحت في اقناعهما، وذهبنا أنا وفندي وسعدون قاسم واصطحبنا معنا المطرب العماري كاظم البنا.. وحين وصلنا بغداد اتصلت بصديق عزيز عندي اسمه خالد، يعمل موظفاً في استعلامات الإذاعة والتلفزيون، ورجوته أن يمرر دخول فناني العمارة بدون ورقة دخول، فوافق بعد أن وعدته بوليمة غداء وبيرة !
فدخلنا الاذاعة، ووجدنا الفنان الكبير سعدون جابر ينتظرنا هناك، فقد كنت قد اتصلت به وحكيت له الحكاية كلها قبل ان نذهب الى الاذاعة.. اصطحبنا سعدون جابر الى بيته في حي القاهرة، وحين مسك كاظم فندي عوده، وبدأ ينثر عبير روائعه، سكر سعدون جابر بسحر هذا الغناء الجميل، وركض الى مسجل صغير ليضعه أمامه ويقول لكاظم فندي: سجل لي حبيبي كل ما عندك من جمال وابداع وروعة.. ومن هناك بدأت حكاية سعدون جابر مع الغناء العماري المضمخ برائحة الأرض الميسانية، والمعطر بأريج السومريين، فولدت مرة ثانية أغنيات باهرة كتبها سعدون قاسم ولحنها كاظم فندي مثل ( إبشيرة وجتني الصبح ولال ولوه ويمعيبر ولك عبرني، وغيرها)، كما التحقت بها أغنيات أخرى كتبتها لاحقاً لكاظم فندي، وغناها سعدون جابر وكريم منصور مثل: حبيتك حب لهفة بلهفة، وشعرچ غابة، ولا تمرلي، وعلى الله وعاد يوفون.. وغيرها من الاغنيات .