عبد الحسين شعبان :أيقونة الثقافة المشرقية .
بقلم : د. مظهر محمد صالح ..
ليس من اليسير ولوج مساراً مهماً من مسارات تطور الثقافة المشرقية و تحليل منظومتها الفكرية المعاصرة دون ان يكون حاضرا من يعتلى ترسانة تطوراتها ويجسد عالماً موضوعياً مفعماً بالأيديولوجيا العضوية ، الا وهو المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان .
فهو وحداً من المفكرين القلائل ممن كرسوا أبحاثهم وكتاباتهم لخدمة قضايا الادب و علم الاجتماع والاجتماع السياسي والانساني .
ففي طيف من كتاباته الواسعة على مدار اكثر من نصف قرن لامس فيها هموم المجتمع العربي في محاور الوطن والحياة والانسان ،وجسد فيها حالة المثقف العضوي الذي عمل على ربط النظرية بالممارسة العملية (البراكسيس) وهو يسعى لتحويل الأفكار إلى أفعال تعزز من قوة وتأثير طبقته الاجتماعية التي دافع عنها انسانياً منذ مطلع حياته الثقافية والسياسية . اذ جمع في شخصه بين حبه للأدب، ونشاطه السياسي الثقافي. وظل يرى حقاً أنّ الحرية والجمال والإبداع هم رسالة الثقافة والأدب تتناقلها الأجيال .
قدم عبد الحسين شعبان في رسالته الثقافية تفسيراً للواقع العربي من وجهة نظر انسانيته ، ووجه جهوده نحو تحقيق أهداف اخلاقية في مجتمع امثل خاليا من الظلم الطبقي وبشاعة الاستغلال ، وهو ما تطلب منه فهمًا عميقًا ووعيا قادر على تدوير زوايا المشكلات الطبقية و الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عالمنا المشرقي ، لولادة جيل من الثقافة والمثقفين في مناخات سياسية واجتماعية شاقة وصعبة عاشها الاديب والمفكر عبد الحسين شعبان منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اللحظة.
وبهذا انقسمت حياة الدكتور عبد الحسين شعبان الفكرية لتأخذ اتجاهين او انتمائين تحليليين ،ربما نجدهما متناقضين في المسار والمنهج احياناً ولكن يلتقيان في النتائج و الاهداف:
فالانتماء الاول : يتجه نحو تبني مدرسة تفكيكية مشرقية ،
فمثلما عاشت اوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين عصرا من عصور الفلسفة التفكيكية ، التي أصلها فيلسوف فرنسا جاك دريدا Jackie Élie Derrida المولود في الجزائر في العام 1930 واصفاً التفكيك
deconstruction بانه مجموعة من الأساليب غير محددة المعالم لفهم العلاقة بين (النص )و (المعنى) مبتعداً عن الأفكار الأفلاطونية حول الأشكال والجواهر “الحقيقية” التي تقدر قيمتها فوق المظاهر.
اذ ان استخدام دريدا لكلمة التفكيك deconstruction هي بالاصل ترجمة لكتاب (التدمير) الذي ساقه الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر Heidegger المولود في العام 1889 ،اذ يشير مصطلح هايدجر في ذلك إلى عملية استكشاف الفئات والمفاهيم التي فرضتها التقاليد على الكلمة والتاريخ الذي يقف وراءها.وهنا كان استخدام دريدا لكلمة التفكيك كترجمة لكتاب التدمير في علم اللغة كما ذكرنا آنفاً .
ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، ألهمت هذه المقترحات الخاصة بمرونة اللغة بدلاً من أن تكون ثابتة وقابلة للتمييز بشكل مثالي، مجموعة من الدراسات في العلوم الإنسانية بما في ذلك تخصصات القانون ،الأنثروبولوجيا، علم التأريخ،علم اللغة،علم اللغة الاجتماعي،التحليل النفسي، وغيرها . كما أثرت التفكيكية أيضًا في الهندسة المعمارية وانصرفت كذلك الى
الفن والموسيقى، والنقد الأدبي.
اما في المشرق العربي ، فيقف المفكر عبد الحسين شعبان على نقطة الافتراق بين الافلاطونية نفسها حول الاشكال والظواهر التي تقدر قيمتها فوق المظاهر، لياخذنا باوجه متجددة نحو اخاديد الفلسفة التفكيكية اللغوية والبحث من خلالها في مفارقات السياسة والاجتماع والتاريخ والانثربولوجيا التي تحاكي المجتمع الشرقي معرفيا.
فالمفكر عبد الحسين شعبان شق طريقه بين كبار المثقفين العضويين الاكاديمين ممن تفاعل مع حراك جامعة بنسلفانيا وغيرها في قضية غزة. اذ عُدت انتفاضة الطلبة في الجامعات الامريكية المحافظة لمناصرة غزة ، مرآة عاكسة وصادقة لتطور الوعي النقدي غير المسيس للمثقف الاكاديمي العضوي ، وهو اصطفاف (تلقائي ) مفاجيء يتفجر غالباً خارج المحركات السياسية الحزبية ومقوماتها الاديولوجية ، وبعيدا عن تاثير درجات انغلاقها وانفتاحها كقوة متحزبة تخضع لتكتيكات ومصالح المنظمات الحزبية في التاثير والتعبير ازاء حروب التوحش التي لم تهدأ في منظومة راس المال المركزية .
ومنها على سبيل المثال انتفاضة طلاب الجامعات الفرنسية والتي سميت وقتها حقاً revolt of Paris , حيث قادت عوامل متعددة إلى اندلاع الاحتجاجات الطلابية في العآم 1968 ، وجاء العديد منها رداً على الظلم الملحوظ من قبل الحكومات – في الولايات المتحدة الأمريكية (تحديدا ضد إدارة الرئيس جونسون ) – اذ كانوا معارضين للتجنيد الإجباري وتورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام.
وهكذا ظلت شرارات الوعي تلتهب على مر التاريخ المعاصر وتاخذ على الدوام شكلها التلقائي النقدي (الحركي الجمعي ) ولاسيما عندما تبلغ الحروب الراسمالية نقطة اتقاد توحشها في قساوة اسلحتها كادوات قتل ضد الانسانية وانتزاع حق تقرير المصير من الشعوب المضطهدة كما هو حال الشعب الفلسطيني اليوم.
فالمثقف العضوي organic intellectual كما عبر عنه فيلسوف ايطاليا انطونيو غرامشي ثانية :
بانه شخص يخرج من سياق اجتماعي و ثقافي محدد ويستخدم معرفته وتأثيره للدفاع عن التغيير الاجتماعي أو تحدي هياكل السلطة القائمة. وانهم غالبًا ما ينشأون من مجموعات مهمشة أو مضطهدة ويقدمون وجهات نظر بديلة للأيديولوجيات السائدة.
وهنا يواصل المفكر عبد الحسين شعبان في حوار الثقافة العضوية وبعنوان مهم :غزة والحرب الاكاديمية قائلاً: (وبغض النظر عن مآلات الصراع ونتائجه في غزّة، فإن الوضع الأكاديمي في الجامعات الغربية لن يعود إلى سابق عهده، بل إن ثمة تحوّلاً نوعياً إزاء القضية الفلسطينية قد أصبح واقعاً، ولم يعد مقتصراً على الطلبة العرب، الذين يدرسون في الجامعات الغربية، بل تخطاه إلى شرائح واسعة من الطلبة الغربيين وغيرهم.
ولعلّ ذلك قد يؤدي إلى تغييرات مستقبلية ببروز قيادات مختلفة عن سابقاتها، التي كانت مؤيدة لإسرائيل بصورة تقليدية وعمياء. وقد تنشأ جماعات ضغط جديدة عربية تكون موازية لجماعات الضغط الإسرائيلية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى دعم عربي شامل، لا سيما من جانب الحكومات العربية. فقد أطاحت غزّة بالشعارات الرنانة، ووضعت الجميع أمام استحقاقات جديدة ذات أبعاد إنسانية، بما فيها إعادة النظر بالديمقراطيات الغربية ذاتها، والتي يطلق عليها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الديمقراطيات المنقوصة))
فنرى حقا ان مايجري اليوم من وعي جمعي للنخب المثقفة تنطلق تحديداً من كيانات اكاديمية تتمثل بالجامعات لتصنع الراي العام الانساني في التاثير في قرارات مصير الشعوب المضطهدة ، وتاتي اليوم بزخمها كبديل (ديناميكي ) لتحركات التنظيمات الحزبية التي مازالت بطيئة التعبير في تحريكها للراي العام صوب القضايا المصيرية للشعوب والتي يسيرها بالغالب نمط اديولوجي (استاتيكي ) مؤطر باوامر مركزية يزحف على مسالك احتجاجية ضيقة ، او غالباً ما تتحرك او تسكن على خرائط المصالح السياسية عند تبريد المواقف او تسخينها .
ففي تاريخ الحركات الوطنية خارج التحزب السياسي مثلما قام به الثائر الكبير (جيفارا ) وانفلاته في النضال نحو تحرير جنوب العالم اللاتيني ، اذ جاء متحرراً من قبضة الحزب الواحد ليجسد بوعيه نمط حاد ومسلح في التعبير عن انعطافات المثقف العضوي من انغلاقات الوعي المسكون بأيديولوجيا احادية ، و ليرسم بنفسه ورفاقه دروب الحرية وفلسفة التحرير . وهنا ينصرف الدكتور عبد الحسين شعبان مع العديد من المفكرين الاكاديمين لياكدوا و بصوت عالي مفارقة الوعي والثقافة العضوية في مواقف الدول اللاتينية تجاه غزة ولاسيما ما قاله الزعيم البرازيلي لولا دا سلفا في قمة الاتحاد الافريقي في اديس ابابا وبالنص : ((ان ما حدث للشعب الفلسطيني في قطاع غزة… لم يحدُث أبداً في أي وقتٍ من التاريخ….. . )) وهذا الموقف وغيره من الموآقف لعددٍ من رؤساء وحُكام دول العالم قد جعلت المواطن العادي والمتابع لهذه الشؤون من العرب ان يشعروا بالحيرة والدهشة والغرابة والحرج.
فثوران الطلبة في الجامعات الامريكية (ببعده الواعي النقدي اليوم ) يتخذ اتجاهين : الاول ، ان الطلبة هم قوى (مثقفة عضوية ) تلقائية في انسانيتها خاليه قد اسست ايديولوجيا عضوية لنفسها .
والاخر ، انها قوى ولدت من رحم المؤسسة الاكاديمية الجامعيّة المحافظة ، وهي خالية من القيود و الانظمة الحزبية ، على الرغم من القمع البيروقراطي والبوليسي والتشريعي الذي تتعرض له ،ما يعني ان صلابة وديمومة تاثيرها بسبب قوة مبادئها والتعبير عنها بشكل مباشر دون قيود ملزمة ، هي اقوى تاثيرا على عموم الراي العام من اي تنظيمات سياسية تتحلى بالافق النمطي التدريجي التطوري evolutionary في الحركات الاحتجاجية الحزبية، وهو افق بطيء لايبدل حركة التاريخ ولا يسرع من انعطافاتها بل هي محاولات حزبية خالية من تفجير الافق الثوري او بلوغ غليان الثورة او الانتفاضة revolt كما فعل الطلبة في جامعة كولومبيا وغيرها .
وهنا يذكرنا المفكر عبد الحسين شعبان عن انماط تاريخية في الثقافة العضوية المشرقية وتحديداً انتفاضات الطلبة في العراق بالقول:
مرّت قبل أيام الذكرى اﻟ76 لتأسيس أول اتحاد طلابي عراقي، والذي انبثق في ساحة السباع ببغداد في 14 إبريل 1948، يوم التهب الشارع الطلابي والوطني مردداً قصيدة الشاعر الكبير الجواهري «أخي جعفر»، والتي يقول في مطلعها:
اتعلم ام أنتَ لا تَعلمُ… بأنَّ جِراحَ الضَّحايا فمٌ
وحينها كانت الحركة الطلابية العراقية والعربية تمثّل رأس حربة أحياناً في المواجهة وفي إشعال فتيل التظاهرات والاحتجاجات، في إطار الحركة الوطنية، لا سيّما دورها المتميّز في نصرة الشعب العربي الفلسطيني وقضيته العادلة على مدى التاريخ المعاصر، وخصوصاً ما حصل بعد العدوان الثلاثي الإنكلو – فرنسي الإسرائيلي على مصر في عام 1956 وعدوان 5 يونيو 1967 على الأمة العربية من جانب إسرائيل.
وأخيراً ،فبين غزة 2024 و هانوي 1968 يوجد خط ثقافي عضوي واحد مشترك هو (ثورة الطلاب )التي تتكثف في انسانيتها على مدار اكثر من نصف قرن ( اي ثورة طلاب فرنسا في 1968 وثورة طلاب جامعة كولومبيا وغيرها في 2024 ) وهما حصيلة واحدة في تكاثر الوعي لبلوغ نقطة انفجار (ثورة الوعي نفسه ) لفرض السلام بقوة العقل النقدي المدني و ايقاف الحروب الراسمالية غير العادلة والتي تستسيغ الانفلات والافراط في مستويات التوحش باستعمال ادوات العنف حتى بلوغ جرائم الحرب .
ختاماً،انه من الجميل ان تهبنا الحياة حقاً مناخاً ثقافيا وانسانيا راقيا تقوده شاعرة العرب والانسانية الدكتورة سعاد محمد الصباح ليحيط تكريمها في ( يوم الوفاء) لقوى فكرية واكاديمية نادرة يتقدمها اليوم المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان .
والتمس هذه المناسبة لتقديم شكري وتقديري لشركة دار الصباح للتوزيع والنشر بكتابها ومثقفيها والعاملين فيها في تكريمها للعقل العربي والانساني المفكر .
والله ولي التوفيق .
الدكتور مظهر محمد صالح.
كتبت في
بغداد – يوليو/تموز – 2024