خمسميل: مدينة دفنت أبناءها بصمت
بقلم : كاظم فنجان الحمامي …
ربما يجهل أبناء مدينة (خمسميل) في البصرة ان مدينتهم كانت في ثمانينات القرن الماضي من أشهر مدن الرعب والخوف والهلع، حيث لم تسلم معظم بيوتاتها من مسلسل المداهمات والاعتقالات والإعدامات بلا سبب. .
كانت المدينة وقتذاك تخاف من انتشار رجال الأمن الذين روّعوا المواطنين في بيوتهم، وراقبوا الشباب وتابعوا تحركاتهم في الليل والنهار. .
كانوا ينتشرون كأسراب الجراد الخبيث. يلتصقون على الجدران في كل زقاق وفي كل ركن. حتى بلغ الخوف بين الناس مبلغا عظيما. .
كان الجار يخشى جاره ولا يطمئن له، خوفا من ان يوشي به لرجال الأمن، وكان الطالب يتجسس على زميله في المدرسة، وكان بيت المختار هو وكر السوء الذي يتجمع فيه وكلاء الأمن من النساء والرجال. في الوقت الذي كان فيه الآباء والأمهات ينساقون بلا مقاومة أمام رجال الأمن ليستلموا جثث فلذات أكبادهم الذين اُزهقت أرواحهم ظلما وعدوانا من دون السماح لذويهم بالبكاء أو حتى الترحم عليهم، وكان يتعين على الأب أو ولي أمر المعدوم تسديد نفقات الإعدام شنقاً. .
لقد قسموا صلات القربى بيننا وقتذاك الى درجات: أولى وثانية وثالثة ورابعة. والويل لك ثم الويل إذا كنت قريب المعدوم من الدرجة الأولى. فالدرجة الاولى هو الخال والعم وابن الخال وابن العم. .
كانت مدينة خمسميل تعيش في حالة فزع شديد لا يتصوره العقل، حيث يتكوّر الخوف في دروبها ككرة مكهربة تتدحرج في الظلام، وتتسلل بين بيوت الفقراء، تصغر وتكبر بمسلسل الاعتقالات والاعدامات المتوالية، ويصبح رجل الأمن هو البعبع والفزّاعة وعصا السلطان وصولجانه، ويصبح المواطن لا حول له ولا قوة، قد يموت مثلما مات آلاف الشباب، وقد يعيش منتهك النفس أو العرض أو كليهما، وتصبح وجوه رجال الأمن كلها شبيهة ببعضها، مع اختلاف ثيابهم التنكرية وملامحهم الإجرامية، ويصبح أسلوبهم موحداً حتى في الكلام، أسلوبٌ فيه استعلاء (إحنا رجال السلطة). من يتطاول على السلطة نقطع رأسه. .
لقد خيّم مناخ الاضطهاد والاستبداد في تلك الأيام السوداء على أجواء هذه المدينة الفقيرة.
كنا نتحدث مع بعضنا البعض بصوت منخفض حتى لا يسمعنا أحد، فالجدران لها آذان، كانت كل كلمة لا تعجب رجال السلطة يمكن أن تؤدي إلى الاعتقال أو الإعدام أو التغييب وراء الشمس من دون أن يكون للمُغيب أي أثر. .
إنها سلطة الخوف التي تُستعمَل بطرائق متعددة، وتُمارَس ضدنا في خمسميل بأساليب فجّة، وكان مشهد الموظّف المنكسر المفصول من عمله لكونه من أقارب المعدوم أو المُعتقل، من المشاهد الشائعة في جمهورية الخوف والفزع. . .