الخياط الذي برع في الجراحة
بقلم : كاظم فنجان الحمامي …
مقالة كتبها كاظم فنجان الحمامي في ٢٦ / ٥ / ٢٠١٤ نعيد نشرها الآن بمناسبة التكريم الذي قدمته نقابة اطباء البصرة للدكتور هاشم الخياط.
ليس من السهل اختزال حياة الأستاذ الدكتور هاشم الخياط ببضعة كلمات، وليس من السهل تلخيصها بأسطر معدودات، فقد سطر هذا الرجل في مستشفيات البصرة سفراً رائعاً من أسفار الجراحة البشرية، وارتقى بمهنة الطب بكل ما تحمله من سمات إنسانية مشرفة، فكان من أروع الأطباء من حيث العطاء العلمي الدائم، والأداء المهني المتقن، والإخلاص الوطني الصادق. .
في أسرة نبيلة ولد الدكتور هاشم صادق مهدي أحمد الخياط، وفي أجواء هذه الأسرة المعروفة بتوجهاتها العلمية وجد (الخياط) نفسه في مكتبة والده العامرة بالمراجع العلمية، فكان مولعاً بالقراءة منذ نعومة أظفاره. .
كانت ولادته في بغداد عام 1946. أنهى دراسته الابتدائية عام 1958 في مدرسة دار الطفولة الأهلية، ثم أكمل المرحلة الثانوية عام 1964 في كلية بغداد للآباء اليسوعيين الأمريكان، ونال شهادة البكالوريوس في الطب من جامعة بغداد عام 1971. .
عمل بعد تخرجه مقيماً دورياً في المستشفى الجمهوري بالبصرة للمدة من أيلول 1971 إلى أيلول 1972، ثم التحق بالخدمة الإلزامية في قاعدة القوة الجوية ببغداد، فخدم فيها للمدة من تشرين الأول 1972 إلى كانون الثاني 1973. تسرح من الجيش ليمارس الطب عام 1974 في ريف البصرة، فأمضى عاماً كاملاً في (المدينة)، أصبح بعدها مقيماً أقدماً بالجراحة في مستشفى البصرة العام للمدة من شباط 1975 إلى كانون الأول 1977، ثم سافر إلى اسكتلنده في نهاية عام 1977، فالتحق بكلية الجراحين الملكية في أدنبرة، وحصل منها على زمالة كلية الجراحين الملكية عام 1981. عاد بعدها إلى البصرة في صيف العام نفسه, قبل أن يستلم شهادة التخرج، فعاد إلى وطنه على الرغم من ظروف الحرب ليكمل مشواره الطبي في ردهات الجراحة. .
ترأس قسم الجراحة في مستشفى البصرة العام اعتباراً من ربيع عام 1989 وحتى إحالته إلى التقاعد عام 2013، لكنه لم ينقطع عن ممارسة الجراحة، ولم يتوقف عن تقديم مساعداته الإنسانية للمرضى والمصابين، وظل يعمل بعقد مؤقت بدرجة خبير في مستشفى البصرة العام. .
حصل الدكتور (الخياط) على زمالة (فخرية) من كلية الجراحين الملكية في كلاسكو عام 2007، وحصل على زمالة (فخرية) من كلية الجراحين الملكية بلندن عام 2014. .
أنجز حتى الآن ما يزيد على 12000 عملية جراحية، أجرى معظمها في مستشفى البصرة العام، وأجرى بعضها في مستشفاها التعليمي، وكانت أطول عملياته وأكثرها تعقيداً العملية التي أجراها في نوفمبر عام 1987 لمريض مصاب بالسرطان. إذ سقطت قذيفة صاروخية فوق غرفة العمليات الكبرى، فأنقطع التيار الكهربائي، وهرع الناس إلى الملاجئ، بينما ظل الدكتور هاشم الخياط صامداً في مكانه، وأبت نفسه الكريمة أن يتخلى عن المريض المسجى فوق منصة العمليات، فلم تثنه القذائف عن إتمام مهمته الإنسانية، التي اكملها على ضوء الشموع، فوقفت الأقدار حينها في صف المريض والجراح، وكان النجاح المؤزر بالعناية الإلهية من أروع النتائج الباهرة التي تحدثت عنها الصحف الأجنبية قبل العربية، حين انفردت مجلة (نيوزيويك) الأمريكية بنشر تفاصيل هذه الحالة النادرة وحيثياتها. .
ينتمي الدكتور (الخياط) إلى أسرة علمية وأدبية وسياسية عريقة، فعمه (أحمد زكي الخياط)، كان قائمقام القرنة، ومن ثم الكوفة، ثم أصبح محافظا لعدة مدن، بعدها خدم في السلك الخارجي للعراق، ثم أصبح مديراً للدائرة القانونية في الجامعة العربية، وعمه الآخر (جعفر مهدي الخياط) من أعلام الترجمة في العراق، ومن خريجي جامعة كاليفورنيا، إذ حصل منها على البكالوريوس عام 1929، وحصل على الماجستير عام 1931. أما والده فهو الأستاذ الدكتور صادق الخياط. الرجل الذي حمل عام 1939 أول شهادات الدكتوراه في الأحياء المجهرية من جامعة أدنبرة، وسبق له أن حصل على البكالوريوس من الكلية الإمبراطورية بالهند عام 1933 بالطب البيطري، وصار عضواً في كلية الجراحين البيطريين عام 1942، ومديراً عاماً للمختبرات البيطرية في العراق للمدة من 1943 إلى 1946، ثم مديراً عاماً للبيطرة للمدة من 1946 إلى 1951، ثم أستاذاً في كلية الزراعة في نهاية عام 1951. أسس عام 1955 أول كلية للطب البيطري، وأصبح عميدها منذ تأسيسها وحتى عام 1968، فاستحق عام 1957 وسام الرافدين من النوع المدني في العهد الملكي، ثم أصبح رئيساً لجامعة البصرة عام 1968، وكان أول رئيس لمجلس إدارة كليتها الطبية. ظل في مركزه هذا حتى إحالته إلى التقاعد عام 1969. .
أما زوجة الدكتور هاشم الخياط فهي الدكتورة لمياء مصطفى النعمة، التي حصلت على شهادة الدكتوراه في الكيمياء الحياتية عام 1979 من جامعة مانشستر بانجلترا, ثم أصبحت رئيسة لفرع الكيمياء الحياتية في كلية الطب / جامعة البصرة عام 1982.
وهي نجلة الأستاذ الدكتور مصطفى النعمة، وحفيدة الأستاذ رجب النعمة الذي كان له الدور الفاعل في النهضة التجارية لموانئ العراق.
ما يميز الدكتور (الخياط) أنه لا يصنف الناس على درجاتهم ومناصبهم ومراتبهم، ولا يفرق بين فقير وغني، يخاف الله ولا يسعى للمال والجاه والمنصب. ويعد امتداداً لعمالقة الجراحة في البصرة، الذين كانوا يتصدرون الرعيل الأول، والذين نهل (الخياط) من علومهم وخبراتهم بالمقدار الذي أوصله إلى هذا المكانة الجراحية المتميزة، ونخص بالذكر منهم أساتذته: الدكتور محمد حسين السعدي، والدكتور خالد الجلبي، والدكتور مصطفى الخضار، والدكتور أحمد السلمان، وكان للخياط الفضل من بعدهم في تدريب وتأهيل عشرات الجراحين اللامعين، الذين سجلوا نجاحاً منقطع النظير في مجال اختصاصهم. .
يحيا (الخياط) حياة أكثر من عادية، يميل إلى البساطة، يقترب الآن من سن الثمانين ومازال منتجاً فاعلاً متجدداً، ولسنا مغالين إذا قلنا أن النشاط الدائم والحيوية والدقة ومحبة الناس والروح الرياضية المرحة جزء من طبيعته. سألته ذات مرة عن أصعب العمليات الجراحية التي واجهته أثناء مسيرته الطبية الطويلة، فقال: الجراحة مهارة وعلم وفن، ولا يواجه الجرّاح الماهر أي صعوبة في إجراء العمليات الجراحية طالما يضع الأهداف الإنسانية نصب عينه، ويلتزم بالضوابط الصحيحة، ويواكب المستجدات العلمية، ويحرص على تطبيق التعليمات الصارمة، ويتقيد بالخطوات المرسومة خطوة من بعد خطوة. .
أمد الله في عمره، فهو جزء من تاريخ البصرة الإنساني، ورمز من رموزها العلمية. يعمل دائماً بهدوء ليمد لنا يد الرعاية الطبية، فيواسينا ويداوي جراحنا ويزيح عنا الأوجاع والآلام، ويصلح ما أفسد الدهر من أبداننا المعطوبة. .