بقلم : سرى العبيدي ..
سفيرة الجمال والطفولة والإبداع العالمي..
الإجابة على تلك الأسئلة تنحصر في جوابين متناقضين ومتعارضين ، سواء في حقيقتهما أم في فيما يترتب عليهما من أبنية حياتية فوقية ، فهما جوابان : جواب للدين : يرسم به طريق الهدى والايمان أمام العقل ، وجواب للضلال والجحود ؛ يحاول أن يثير به الضباب ، ويطمس معالم الرؤية السليمة ، فيغلق وعي الإنسان ، ويحجز ضميره عن الاتجاه إلى الله سبحانه ، مبدأ هذا الوجود وغايته ، فجواب الدين يطرح بدعوته ، ورسالته ، تفسيرا للكون والحياة ، وتوضيحا لوجود الانسان فيهما ، وعلاقته بهما كما يطرح الطرف الآخر تفسيره ، وإجابته ، ردا على معتقد الإيمان ، وجحودا بمنطقه وتفسيره ، والدين ينطلق في تفسيره ونظرته من الاعتقاد والايمان بأن لهذا الكون والحياة والانسان خالقا وربا ومعبودا ، وان وجود الإنسان في هذه الحياة ليس وجودا عابثا ضائعا ، ولاشيئا تافها ، خاليا من المعنى والهدف ، بل إن للحياة والانسان هدفا ، وقيمة خارج حدود الزمن الذي يعيشه الإنسان على سطح هذه الأرض ، وغاية سامية يسعى نحوها ، ويصنع صورتها ، بمواقفه وأعماله ، ومجمل نشاطه ، في عالم يتعدى حدود المنظور ، والزمن المعاش في دنيا الإنسان ، وهو عالم الآخرة والخلود ، والامتداد الابدي المطلق :
( من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون ) ..( ولكل درجات مما عملوا ……) ، وبهذه الإجابة وضع الدين أمام الإنسان تفسيرا صحيحا للبقاء والحياة ، وكون له رؤية امتدادية خالدة تقطع في نفسه جذور الشك ، والقلق الفكري ، والشعور بالخوف من الفناء ، والضياع ، والعبث ، في هذه الحياة .
وفي هذا التفسير فتح الدين أمام الإنسان أبوابا واسعة للدخول الى رحاب الحياة ، ونظم حياته على أساس فكري موحد ومتقن ، ينتهي به إلى نتائج وغايات حياتية ، خالية من الاضطراب والتناقض والخيبة ، ضمن مايعرض عليه من تفسير فكري ، وعقاىدي ، ومنهج تفكيري ، متقن النظام والحركة ، يقوده إلى فهم حياتي ، والتزام سلوكي واضح ومحدد .
فالمؤمن يعتقد بوجود خالق ، عادل ، عالم ، قادر ، حكيم ، ….وهو بعد ذلك يؤمن بوجود حساب ، ومسؤولية تترتب على كل عمل يقوم به ، كما يؤمن بجزاء ينتظر كل أفعاله وتصرفاته في هذه الحياة ، لذا فهو يتصرف على أساس من هذا الفهم الإيماني ، فيصوغ كل جزيئات حياته ، من افكار ، ومواقف ، ومشاعر ، وعلاقات ، ضمن هذا الإطار العقائدي الموحد .
وما اجمل تعبير القرآن الكريم وهو يتحدث عن هذه الحقيقة ، ويصف الصفوة المؤمنة التي أدركت قيمة الحياة ، وعرفت معنى الوجود ، فينطق بلسانها قائلا : (ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) …
أما الجواب الثاني ، هو النظر إلى هذا العالم ، والى هذه الحياة من داخلها فقط ، وقطع أية صلة أو علاقة لها بعالم الغيب وخالق الوجود ، بعد أن بنوا اعتقادهم على تفسير ينكر وجود الخالق ، والإله المبدع ، فحكموا على هذا الإنسان بالفناء الابدي والاستحالة إلى تراب يندك في متاهات الأرض وعناصرها الضائعة بلا عودة أو نشور ، هكذا أدخل شعور الإنسان الحي مقبرة الموت واليأس والفناء الابدي ، وهكذا أنهى التفسير كل قيمة ومعنى للحياة في نفس الإنسان ، فكانت كارثة أصابت مشاعر الامل ، وأحاسيس التفائل ، فصار الإنسان نهبا لليأس ، والضياع واستسلم للتحلل والانهيار ، فاحال الحياة إلى ساحة صراع وفترة ممارسة للمتع والشهوات والملذات الحسية العابرة ، مع موت كامل للاحساس بالسعادة والشعور بمعنى الحياة ، لان الحياة في نظر هذا الإنسان فترة شقاء عابثة ، لانتيجة لها ، ولا أمل ورائها ، فلا آخرة ولا عدل الهي ، ولاعقاب ، ولاثواب ، ولامسؤولية ، ولاجزاء ، ولا خلود ، شأنه في ذلك شأن نبات الأرض ، وديدان الكهوف .
ولا شك أن البشرية لم تصب بكارثة في حياتها أخطر من إصابتها بطوفان هذه الكارثة المدمرة التي قضت على الإنسان بالحياة والموت داخل سجن الارض ، والعودة إلى تراب الفناء الرهيب ، فإذا كان الأمر كذلك فاي معنى للحياة… ؟
واي قيمة لها اذا ً؟
لماذا لا يمارس الإنسان كل ما يريد …؟
حتى ولو كان في هذه الممارسة شقاء الآخرين ، وانهاء حياتهم بأقسى صور العذاب والشقاء ، مازال الوجود بالنسبة للإنسان هو كل هذه الفترة الزمنية المحددة الضائعة في عمر الكون اللانهائي ، الذي ابتلع ملايين الأجيال ، واستهلك كل امتداد البشرية الغابر ، وكم كان رائعا تصوير القران الكريم لهذه المأساة الفكرية التي توهمها التفكير الجاهلي الجحود ، وهو يصوغ مقولته ، ويعبر عن عقيدته : ( هيهات هيهات لماتوعدون ،ان هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما نحن بمبعوثين) ،
وكم كان دقيقا تعبير القرآن عن الصورة المأساوية التي ينتهي إليها هذا الإنسان الشقي الضائع حين قال:(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) …
فهذا القطيع من الضلال كما صوره القرآن الكريم ، هو الذي خسر نفسه وضيع حياته ، فأحال الحياة جحيما وشقاء ، بدلا من أن يجعلها نعيما وسعادة ، وبسبب مايخدع به نفسه من فهم وتصور ، منحرف للحياة والوجود …
وبسبب ماكان يظن من أنه يحسن صنعا ، وهو يبتعد عن منهج الله ورسالته ، معتقدا أنه هو وحده الذي استطاع أن يكشف الطريق ، ويضع قدمه على درب المسير ، فكان هو المغرور الذي وصفه القران بقوله 🙁 زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا…..) …
فاي كارثة إذا يتعرض لها الإنسان أفدح من تلك الكارثة ….
وهي خسارة النفس ، وضياع الإنسانية ، تلك الخسارة التي مني بها الإنسان بسبب هذا الضياع الفكري ، والشذوذ العقائدي ، والانحراف المنهجي .
واذا لا يشك عاقل في ضرورة إلغاء هذا المنهج الفكري ، وابدال تلك الطريقة المادية في فهم الوجود والحياة ، والأخذ بمنهج فكري واقعي متطابق مع الحقيقة الكونية للطبيعة والفكر والمجتمع .
وليس بمقدور الإنسان أن يجد هذا المنهج الفكري إلا في منهج العقل …
باصالته الفطرية ، وبنشاطه النظري الدقيق ، فهو الحقيقة المدركة ، والقوة الواعية ، التي تتحرك وفق منطق الوجود الكوني العام ، وتتطابق معه ، لأنها جزء منه ، ونموذج أعلى لحركته وانتظامه ،
لذلك توجه القران بالخطاب إليه ، والحوار معه ، لانه هو وحده القوة المتجانسة مع منطق القران ، والقادرة على فهم واستيعاب منهجه ودعوته ، فقال :
( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) ، ( …. إن في ذلك لقوم يتفكرون) . وعندما يمنح العقل حرية التفكير والتأمل ، بعيدا عن مؤثرات الانحراف ، وعوامل التزييف ، يستطيع أن يكشف أن المناخ الفكري الوحيد الذي يساعده على النمو والفهم السليم للوجود والحياة ، هو منهج القران ، وطريق الدين ، فعلى ضوئه فقط يستطيع أن يفسر الحياة ويقيمها كما ينبغي أن تفهم وتقيم ، وبذا يكشف عجزه ويكتشف حاجته إلى منهج الدين وهدايته .