بقلم: سعد الاوسي ..
(( رؤية وتحليل للقاء السيد نوري المالكي مع قناة الشرقية الفضائية في تشربن ثاني2022 ))
حين كتب العراقيون القدماء في فجر التاريخ اسطورة قائدهم العظيم جلجامش، وصفوه في اول سطورها بالرؤية الحكيمة فقالوا:
(هو الذي رأى كل شئ فغني باسمه يابلادي)
لانهم ادركوا ان الرؤية الدقيقة الصائبة هي اول شروط القيادة واعظم عناصرها لبناء الوطن واعمار حضارته وحماية حدوده ورفاهة شعبه.
لم يبدأوا ملحمتهم الخالدة مفتخرين بقوة جلجامش،ولا بالانتصارات التي حققها في الحروب ولا بنائه القلاع والاسوار العالية، بل برؤيته الحكيمة التي قادتهم الى الامن والامان والسعادة والرفاه والعدل والمساواة والقوة والمنعة.
وباستعراض المراحل المظلمة في تاريخ العراق نجد انها نتاج حتمي لزعامات جاهلة غبية افتقدت حكمة الرؤية وحصافة المسؤولية فضاعت وضيّعت الوطن والشعب بين صخب الحروب وجشع الحكم و دكتاتورية السلطة الغاشمة.
بينما كانت الاشراقات الكبيرة في تاريخنا كدولة -على اختلاف كينونتها ومسمياتها وسماتها- تقف بثبات على ارض آمنة من حصافة وحكمة قادتها الذين رأوا اكثر واعمق وأوضح مما يراه الآخرون.
بالامس القريب وبعد عشرين عاماً من عمر دولتنا الجديدة ونظامنا السياسي الديمقراطي -بسيئاته وحسناته على قلّتها- استمعت على شاشة قناة الشرقية من دولة الرئيس نوري المالكي زعيم الدولة وعرابها الاكثر حضوراً وتأثيرا، الى حديث صريح هادئ واضح وعميق يشخّص ويؤشر و يؤطر وينتقد ويعترف بشجاعة القائد الحكيم العارف المجرّب، اخطاء واخفاقات الماضي التي ربما تكون حملاً ثقيلاً على ظهر الحاضر والمستقبل ان لم تُقيّم و تُحاسب و تُعالج بأقصى درجات الموضوعية والمسؤولية.
لم يكن الزعيم المالكي في حديثه بهذا اللقاء المهم -على شمولية المحاور التي استعرضها- مجرد زعيم سياسي او حاكم مسؤول يتحدث الى شعبه أو يُسمع العالم الخارجي المتربّص فحسب، بل كان استحضاراً وتمثّلاً تاريخيا للزعامة الشاهدة المبشّرة النذيرة التي تريد للوطن غدا أفضل وترسم مسارات ذلك الغد بحكمة ورؤية حصيفة راسخة وحزم وعزم ثابتين.
وقبل ان يشمّر (الاوغاد والفاشلون والمأجورون) عن اذرع احقادهم و امراض انفسهم ليتهموا صاحب المقال بانه يمدح ويطبّل ويتزلّف للمالكي، وهو الاتهام الجاهز الرخيص الذي لايحسنون سواه ، ادعوهم واستدعي الوشل الباقي من ضمائرهم ليتتبعوا معي خطوط ومسارات ومحاور حديث السيد المالكي الأخير هذا، ثم ليقيّموه وينتقدوه ويفنّدوا رؤاه بعلمية وموضوعية وحياد ، كي يتبيّن للشعب نصاعة الحق والحقيقة من سواد انفس هؤلاء الذين كان امثالهم على مدى التاريخ شرارات النار القذرة التي أحرقت الاخضر واليابس وحطّمت الامم والشعوب.
كان الزعيم المالكي في هذا اللقاء شاملا مستفيضاً واضحاً و محدداً وصريحاً أكثر بكثير مما تحتمله لغة السياسة. وقد تحدّث في البدء عن الحكومة الجديدة المولودة بعد مخاض عسير من رحم الاطار التنسيقي وأئتلاف الدولة، والتي جرى الاصطلاح على تسميتها بحكومة السيد السوداني، فقال:
- ان الشائعات التي انتشرت قبل تشكيل الحكومة ولّدت الخوف والذعر عند العراقيين. في اشارة واضحة الى ماكان يجري في كواليس المؤامرة لمحاولة العبث بالشرعية والاستحقاق الدستوري لفرض ارادة ورؤية انفرادية واحدة تعيد صورة الدكتاتورية السياسية الى حياة العراقيين بشكل او بآخر.
- وقال : انهم (والحقيقة هي إنّهُ وليس انّهم) فككوا كل الأزمات من اجل تشكيل الحكومة على وفق الدستور. ويعني انه احتوى كل الخلافات والطموحات والاطماع والرغبات المتقاطعة جميعاً وفكّك تضاربها وغلوّها وعلوّ سقف طلباتها وتمادي بعضها، من اجل الخروج بالعملية السياسية من حالة الانسداد والعقم الذي وصلت اليها بتلاعب ايدٍ و ادوات داخليةٍ ممولة ومسيّرة من الخارج، كانت تسعى جميعا لهدم كل شئ واشاعة الفوضى تحت عناوين طوباوية برّاقة، وكان يمكن ان تتسبب بفيضان دم ونار في العراق.
- وقال مشيدا بالحكومة الجديدة التي له الفضل الاكبر والاول في وجودها بحكمته وصبره واناته وحزمه: -ان حكومة السوداني هي خشبة انقاذ العراقيين من الغرق. وان العراقيين يشعرون بالراحة في عهدها. وانها تحظى بانسجام داخلي ودعم من كل الاطراف، وخطوتنا الاهم هي الحفاظ عليها.
وفي ذلك اشارة واضحة الى ضرورة دعم هذه الحكومة والحفاظ على استمرارها لان عكس ذلك يعني العودة الى زمن الاختناق والفوضى والتلاعب الدولي بمصير الوطن والشعب - وقال ايضاً، مذكّرا ومحذّرا وناصحاً الحكومة الجديدة لالتزام المسار والهدف الاسمى من وجودها وهو : توفير الحياة الحرة الكريمة للعراقيين وضمان لقمة عيشهم وتقديم الخدمات السريعة لكل الشرائح والاهتمام بالفقراء، وليس الانشغال بالشأن السياسي.
وانا اعتقد ان هذه الخطوط العريضة في المسار الحكومي التي رسمها الزعيم المالكي في حديثه هي الهدف الاكثر اهمية وجدية والواجب الاقدس الذي يجب ان تلتزم به هذه الحكومة واية حكومة تعقبها بعد ذلك، وانها في حال تحققها ستضمن امناً واماناً وثباتاً ورسوخا في حياة الشعب وتقدّما ونجاحا على جميع الأصعدة. وفي طيات هذا الحديث اشارة صارخة على خطأ وعبث و وغباء وطمع الحكومات السابقة التي ابتعدت عن دورها الخدمي وانشغلت بتحقيق طموحاتها الشخصية والسياسية. - وقال الزعيم المالكي ردّاً على التقوّلات التي يشيعها (الآخرون) العابثون الذين ما يزالون حتى الان ناشطين في دائرة اللعب المأجور الطامع : – حكومة السوداني ليست حكومتي ولا املك صلاحيات فيها، على الرغم من انني جزء ممن صنعوها. وهو بهذا القول الحاسم يقطع الطريق ويغلق الباب امام عبث اراد فريق (المتآمرين) اشراعه للطعن بحكومة السوداني على انها حكومة مستلبةً ، وان هنالك ارادة عميقة تسيّرها وتملي عليها اوامرها. وفي ذلك لعب شيطاني خفي آخر لتحميل السيد المالكي الاخطاء التي يمكن ان تقع فيها حكومة السوداني.
- ثم قال : سنرضى بنجاح الحكومة ان تخطت 60% من برنامجها الحكومي. ونقول لهم امضوا في عملكم بدون تردد او خوف، ولن نسمح بوجود اعتراضات حزبية او سياسية عليكم. ومن حقكم ان تبقوا في العمل بكامل مددكم الدستورية لكننا في الوقت ذاته لانمانع من اجراء انتخابات مبكرة ان كانت ذات مقدمات ناضجة. والمالكي بهذه الخطوط العريضة يعطي حكومة السوداني التي بدت مترددة في بعض قراراتها ربما بسبب حداثة عهدها، كل المدد والدعم كي تعمل بكامل حريتها وحضورها وكي يعلن على رؤوس الاشهاد ان حكومة السوداني تعمل بكامل صلاحيتها واهليتها وانه ليست له سلطة عليها الا مايخوله اياه الدستور برلمانيا كرئيس وقائد لاكبر كتلة تؤهله لمتابعة العمل الحكومي ومراقبته وتقويمه. وفي السياق ذاته قال :
ان الرئيس محمد شياع السوداني قد اعطي صلاحية في تسمية وزرائه لم تعط لغيره، وبذلك يعطي المالكي اشارة تأكيد اخرى الى اطلاق يد السوداني باكبر مدى من الحرية في تسيير امور حكومته وقبل ذلك في اختيار اعضائها. - كما ذكر الزعيم المالكي انه كاد ان يبذل روحه من اجل تشكيل الحكومة في اشارة للتصعيدات الامنية التي حدثت من الطرف الآخر الذي اراد مصادرة الشركاء والانقلاب على الشرعية رغماً عن الدستور والقانون وباشاعة اكبر قدر من الفوضى. وهو موقف كبير يحسب للمالكي لاسيما بعد ان اكّد نبل دوافعه الوطنية في التشكيل الحكومي حين تنازل عن استحقاقه في الوزارة حيث قال للسوداني :
شكّل حكومتك ولا تعطني اية وزارة . وقد زاد على ذلك في حضوره جلسة برلمان التنصيب واداء القسم دعما للحكومة في سابقة مشهودة. - ولعل المحور الاهم في حديث الزعيم المالكي بهذا اللقاء حديثه عن الأجهزة الامنية الرئيسة في الدولة، واعتراضه الصارم على ان يكون أيّ منها بيد طرف حزبي او جهة تحمل سلاحاً. في اشارة واضحة تقطع الطريق امام احلام وطموحات البعض في الهيمنة على المناصب الاولى بالاجهزة الامنية، حيث رأى السيد المالكي ان وجود الاحزاب السياسية ذات الفصائل المسلحة في اجهزة المخابرات والاستخبارات والامن الوطني يفقدها حياديتها وفاعليتها ودورها المهني المطلوب. وبرأيي ان هذا الموقف الحازم من وجوب حيادية ومهنية الاجهزة الامنية وعدم السماح بالتلاعب بها كونها خطوطاً حمراء في الامن القومي للبلاد ، وهو واحد من اهم دلائل رؤية الزعامة الراسخة في نفس السيد المالكي وتجرّده من كل ولاء حزبي او شخصي او عقائدي امام الاستحقاق الوطني.
- وفي اشارات سريعة اجاب السيد المالكي عن الاسئلة الاستنكارية واللغط الذي يدور حول حكومة السوداني فقال: من الظلم الحكم على حكومة السوداني بهذه المدة القصيرة، ويجب ان نتذكر انه استلم الدولة بمخلفات ثقيلة وملفات متراكمة مليئة بالمتناقضات كما ان قراره بالغاء القرارات الصادرة عن حكومة تصريف الاعمال هو قرار جماعي لائتلاف ادارة الدولة و لايتحمله وحده.
وفي ردّ عن لغط آخر يتهم السوداني بالغرور قال المالكي : لقد كلفت السوداني باكثر من منصب ابان حكومتي واداؤه كان جيدا، و لايمكن وصفه بالغرور انما هو يعمل بهدوء. - وقال انهم في الاطار التنسيقي لن يسمحوا بتكرار سيناريو اسقاط حكومة عبد المهدي مع حكومة السوداني. وهو ردّ قوي يُسمع العاملين بدأب حتى الان على اختراع سيناريوهات وعثرات وفخاخ طريق للسوداني وحكومته على امل تسللهم من جديد الى المناصب في ظل الفوضى التي سيصنعونها، وهي اضغاث احلام عصافير لن تتحقق مادام في الحراك السياسي رجال اشدّاء مثل الزعيم المالكي ، قادرين على قبر المؤامرات والالاعيب السياسية التي يديرها البعض باوامر واستشارات وتخطيطات واموال خارجية مخابراتية.
- وتطرق كذلك بشجاعة وحكمة هادئة الى الخلاف السياسي مع سماحة السيد مقتدى الصدر، فقال : لانريد ان تبقى النقاط الخلافية السابقة تنخر في جسد العلاقة بيننا وبين التيار الصدري، و لانريد خصومة مع السيد مقتدى واتباعه. وهو بذلك يقطع الطريق امام من يحاول استغلال هذا الخلاف السياسي وتصويره على انه خلاف شيعي شيعي يمكن ان يتطور الى اقتتال تجري فيه الكثير من دماء الاخوة بلا سبب حقيقي. ثم اشار في الصدد ذاته الى ماحدث ويحدث في الشارع السياسي والشعبي من حراك مدفوع بدأ بمحاولة افشال تشكيل الحكومة ثم تحول بعد ان اصبح امام الامر الواقع الى العمل على عرقلتها واسقاطها بالافتراءات الاعلامية وتجنيد الجيوش الالكترونية وتحشيد المظاهرات العنيفة بقصد اثارة الفتنة واشاعة الفوضى املا بانجاح سيناريو اسقاط كل ماترتب من نتائج واحداث وقرارات سياسية بعد الانتخابات البرلمانية لفرض اعادتها من جديد بشكل عاجل في ظرف غير مناسب بالمرة، وظنهم الواهم بان ذلك سيعطيهم تقدما يؤهلهم للانفراد والاستئثار مرة اخرى بالتشكيل الحكومي، وهي سابقة خطيرة جدا في حال حدوثها لاسمح الله لانها ستنتج لو افترضنا نجاحها برلمانا وحكومة من فصيل سياسي واحد وسيعني ذلك ان الوزارة ورقباءها يكونون من عيّنة واحدة، كما يقول المثل الشعبي (خال وابن اخته)، ممايتعارض بشدة مع الاساس الفقهي الدستوري الذي يتشكل عليه البرلمان والحكومة.
- وقدّم الزعيم المالكي في حديثه نصائح اقتصادية مهمة لاصلاح الخراب الذي اصاب حياة المواطن العراقي بسبب الاجراءات الحمقاء التي قامت بها الحكومة السابقة في رفع سعر الدولار فجأةً حيث قال: نصحت الحكومة السابقة بعدم تخفيض قيمة الدينار امام الدولار لكنها لم تستجب لي، وانصح الحكومة الحالية بتخفيض سعر الدولار ورفع قيمة الدينار تدريجياً حتى يعود الى سعره السابق.
- ثم ختم بالاشارة الى قلق الامريكان من ان تكون الحكومة الجديدة بيد بعض الفصائل المسلحة، الا انهم رغم ذلك يشعرون بالرضا المشوب بالخوف عن الحكومة، ويراقبون اداءها تحت المجهر.
- واكّد انه رغم رغبته بعلاقات حسنة مع جميع دول العالم وبضمنهم الامريكان الا انه يرفض العلاقة مع اسرائيل على الاطلاق. الم اقل لكم في اول حديثي ان المالكي هو الزعيم الذي رأى كل شئ وان رؤيته الحصيفة المحنّكة هي التي ستصل بنا الى بر الأمان، وان فن ادارة الازمات الوطنية الكبيرة يقتضي وجود قائد ستراتيجي حازم حكيم صبور ذي ماضٍ مجيد وحاضرٍ مشرّف ومستقبل موثوق، كي نضمن اننا وابناءنا سنعيش في غدٍ افضل، وان وطننا الذي نعشق سيبقى محروساً بعين الله و عزم الرجال الذين صدقوه بما عاهدوه وانهم لاخوفٌ عليهم ولاهم يحزنون.