بقلم : فالح حسون الدراجي …
لم أكن أحب الملاكمة من قبل، لكنّ شخصين فقط جعلاني أغيّر رأيي باللعبة، أولهما الملاكم والمناضل، حسن بنيان، أحد ابطال العراق في الملاكمة في عقد السبعينيات، والثاني عبد الزهره جواد الذي لم يكن بطل العراق فحسب، إنما كان أيضاً بطل العرب وآسيا والعالم العسكري.. وللحق، فإن حسن بنيان لم يؤثر بي شخصياً فقط، بل نجح أيضاً في التأثير على عشرات الشباب من أبناء مدينة الثورة، لاسيما في منطقة الداخل ونهاية التبليط، وكسبهم لحلبات الملاكمة، فأصبحوا أبطالاً في هذه اللعبة مثل البطل الدولي سالم صبري، والبطلين سعدون مطشر، وجواد كاظم، وغيرهم.. وإذا كانت علاقتي بحسن بنيان قوية بسبب الروابط الفكرية والاجتماعية التي كانت تربطنا، فإن علاقتي بالملاكم عبد الزهره جواد لم تكن أكثر من علاقة معجب بملاكم فذ يلعب بالطريقة الفنية الراقية التي يلعب بها الاسطورة محمد علي كلاي !
لكن يوماً من عام 1976، جاء بعبد الزهره جواد نفسه الى شارعنا، وهو يسأل عن بيت ( الشاعر فالح حسون الدراجي) !
فخرجت اليه، ومددت له يدي مصافحاً.. ثم فتحت الباب أمامه للدخول، لكنه اعتذر قائلاً: البارحة أجيت من جاكارتا، كانت عدنا بطولة دولية، ومخنوگ من الفنادق والالتزامات والطيارة.. أريد أشتم هوا.. خلي نتمشى، إذا ما عندك مانع؟ فوافقت، وغادرت البيت معه بالدشداشة .
قال وهو يفتتح الحديث: أستاذ فالح آني من أشد المعجبين بيك وبشعرك..
قلت له: في الحقيقة أنا المعجب بأدائك وطريقة لعبك الباهرة.. فقال لي- ونحن نتمشى في شارع الوسط الترابي، الذي يحمل اليوم اسم شارع الفلاح، والذي لم يكن يبعد عن بيتنا كثيراً – : أنا أحب الشعر الشعبي، ولي بعض المحاولات فيه.. ثم راح يحكي بنقاء وصدق وطيبة، عن كل ما يجول في خاطره وقلبه من أشياء، بما في ذلك حبه الكبير لفتاة في قطاع 17 – ستصبح لاحقاً زوجته السيدة أم انسجام- كما تحدث عن حبه ومزاولته لكرة القدم، وغير ذلك.
وقد لفت انتباهي أن عبد الزهره لم يطرق في كل حديثه معي باب السياسة رغم أنه يعرف اشتغالي بها، فقد كانت (وشيعتي) مصبوغة في المنطقة، لكني لمست عبر حديثنا، أن هذا الفتى المزدحمة خزانته بميداليات الذهب وكؤوس الفضة، والذي جندل خيرة الملاكمين في بطولات وطنية وقارية وعالمية، هو شخص طيب ومتواضع، ومتسامح حد الدهشة، فضلاً عن لطفه، وعذوبته، ومرحه، وخفة ظله ودمه، وحلاوة لسانه، إضافة لشجاعته الفذة، وخلقه وصدقه العالي، إذ لا تجد في حديثه زيفاً أو تزلفاً، ولا تكلفاً أو تصنعاً ..
ثم اكتشفت من خلال علاقتنا التي امتدت بعد هذا اللقاء لعشرات السنين، أن هذا الملاكم العنيد والقاسي، يملك قلباً من ورد وحرير، قلباً لا يعرف الحقد ولا الضغينة أبداً .. ولعل الشيء الأهم الذي اكتشفته بعد لقائنا الأول، أن عبد الزهره (معارض) بالفطرة – اذا صح التعبير -وقد شممت رائحة كراهيته للنظام البعثي دون أن يعلن ذلك.
لذا لم يكن مفاجئاً لي قط عندما سمعت بعد سنين عن تحوله الى الساحة الحسينية شاعراً، ورادوداً، وناشطاً، في زمن كانت سلطة البعث تعتقل كل من تكتشف حبه وولاءه للإمام الحسين ..!!
كما لم أستغرب أيضاً قيام أجهزة السلطة البعثية بمراقبته ومطاردته، حتى كادت تحصي عليه أنفاسه وقد توجت ذلك بنقله – وهو البطل العالمي – من مجاله الرياضي الى موظف استعلامات عند الباب، دون أن تشعر بالعار، او الحرج من ذلك!
لكن عبد الزهره لم يرضخ، ولم يضعف، إذ ظل ثابتاً على يقينه الحسيني، معلناً أمام الكل عن استعداده للموت ألف مرة، دون أن يحيد عن مبادئه وقيمه..
لقد كان عبد الزهره جواد رجلاً شريفاً عفيفاً بكل ما تعنيه الكلمة، وكان حقيقياً في مشاعره النبيلة، لذلك تزوج من المرأة التي أحبها وتمنى ان تكون شريكة لحياته.. وكانت (انسجام) التي ستصبح بعد سنوات اعلامية مرموقة ونائبة في البرلمان، أول ثمار هذا الزواج المبارك، ثم تكررت الثمار الطيبة في عدد من البنات والاولاد، مثل ختام ومحمد، وعلي، وغيرهم.
وقد اكتشفت بعد حين أن عبد الزهره جواد لم يكن موهوباً في الملاكمة فقط، بل كان موهوباً في نظم الشعر الحسيني أيضاً.. حتى أنه – تفرغ للقصيدة الحسينية، فكتب أكثر من 400 قصيدة تغنى بها في حب الحسين عليه السلام.
مرة قال لي: اراك تحب عليا والحسين كثيراً رغم أنك شيوعي؟!
فقلت له: ليس هناك شيوعي عراقي واحد لا يحب مبادئ علي وقيمه العظيمة، ولا تجد شيوعياً عراقياً واحداً لا ينتصر للحسين وثورته الداعية لتحقيق العدالة والحرية.. فقال: لذلك تراني أحبكم..
وهنا أود أن أشير الى نقطة مهمة وجدتها في عبد الزهره جواد.. وأقصد مرونته في التعامل مع أسرته، لا سيما مع بناته !!
فقد ترك لهن المجال في اكمال الدراسة، والعمل في الحقل الاعلامي، الذي كان الكثير من الآباء، يمنعون بناتهم من العمل فيه.. وهكذا رأينا ابنتيه (انسجام وختام) تظهران كل يوم عبر شاشات التلفاز بكامل حريتهما واحترامهما.. ولعل الأمر الذي لن يصدقه الكثيرون ان عبد الزهره سمح لابنته (الصبية) انسجام في أن تمارس لعبة الجمناستك، قبل ان تبلغ أمر الحجاب الشرعي.. ونفس الحرية منحها لولديه محمد، وعلي، اللذين أصبحا من خيرة أبطال الملاكمة في العراق، وليتحولا بعدها لإنشاد القصائد الحسينية.
وللحق، فإن لصديقي عبد الزهره جواد رأياً فلسفياً في التربية الأسرية، فهو يقول: حين تضبط تربية بناتك واولادك، وتصلب أعواد مناعاتهم الأخلاقية، وتتأكد من هذا التحصين وهذه المناعة، مع توفير الثقة، والإحترام لهم، فلا تخف عليهم بعد ذلك، إنما دعهم يشقون طريقهم في الحياة بما يختارونه هم، مع ضرورة متابعتهم من بعيد – أكرر متابعتهم وليس مراقبتهم.
أذكر، أول زيارة لي للعراق بعد عودتي من غربتي، ان أبا انسجام دعاني لوليمة غداء في بيت (انسجام) خلف سوق الحي بمدينة الثورة – قبل ان تصبح نائبة في البرلمان- وكان أبو علي -زوج انسجام – حاضراً في تلك المأدبة، فتحدثت لهم عن علاقتي الأخوية مع أبي انسجام، متذكراً بعض المواقف، لا سيما في الأيام التي ولدت فيها انسجام، وحجم فرحنا بولادتها، وكيف حملتها بيديّ وهي لم تزل في القماط، وكيف وضعت عشرة دنانير تحت رأسها في (الكاروك).. وقد لاحظت أن انسجام تتابع حديثي هذا بفرح وتركيز !
وبعد سنوات من هذه المأدبة الكريمة، التقيت بابنة أخي انسجام – وقد أصبحت اعلامية بارزة -في حفل أقيم في فندق المنصور ميليا- إذ كنت وإياها ضمن قائمة من المكرمين في الحقل الإعلامي- وقد وجدت انسجام ساعتها محاطة بباقة من معجباتها، وصديقاتها الجميلات، وحين رأتني فرحت كثيراً، واستقبلتني بأطيب وأرق الكلمات، وقد نالني من اهتمام الشابات اللائي كنّ الى جانبها نصيب طيب، فالتقطت بعضهن الصور معي.. وفي ذلك الوسط المعطر الجميل، صاحت انسجام قائلة: يابنات، تعرفون عمو فالح، شايلني بيده وآني طفلة بالگماط، وخله جوه
راسي بمناسبة مجيئي للدنيا عشرة دنانير ؟!
وما أن القت انسجام بهذه القنبلة حتى صاحت البنات بصوت واحد : واو، ما امبين عليه كبير هيچي.
وهكذا أحرقت (ام علي) صورتي، وتبخر الحشد الجميل من حولي حالاً، فنظرت الى انسجام معاتباً، وقلت لها: شكراً جزيلاً أمّ علي .. ماقصرتي !
فقالت ضاحكة: تتدلل عمو !!