كل شي ابها الحياة يموت .. كل شي يموت .. بس موتك أشكّن بيه .. سلاماً أبا فيان
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
” كل إنسان بالدنيا يمرّه الموت.. وكل شجرة الكبر بيها الخريف تموت.. وكل شي إبها الحياة يموت .. كل شي يموت .. بس موتك أشكّن بيه “
هذا مقطع من قصيدة كتبتها ( للشهيد فهد) قبل أكثر من خمسين عاماً.. حين كنت صبياً غضاً، أحبو في دروب الشعر والسياسة.. وقد نشرها الحزب الشيوعي العراقي عام 1974 في كتاب عنوانه (قصايد للوطن والناس)، ضم قصيدتي هذه مع 32 قصيدة أخرى، كتبها 32 شاعراً ، وذلك بمناسبة الذكرى الاربعين لتأسيس الحزب.. ولأن رحيم الشيخ، أو (حيدر الشيخ علي)، يشبه فهد وسلام عادل وجمال الحيدري ومحمد حسين أبو العيس وحسن السريع وستار خضير وعايدة ياسين ومحمد الخضري وعبد الامير سعيد وهندال ذياب گزار (أبو سرحان)، وفكرت جاويد، وخيون حسون الدراجي، وخالد حمادي وغايب حوشي وكامل شياع وسعدون (وضاح حسن) وغيرهم من الخالدين، ولأنه مثل عزيز محمد، وكريم أحمد، ومظفر النواب وشمران الياسري، وجعفر حسن وعريان السيد خلف وفؤاد سالم وكمال السيد، وزينب، وناهدة الرماح، وقتيبة الشيخ نوري، وفلاح صبار وعلي العضب وغيرهم، ولأنه جبل لا يمكن دحره، ونهر لا يمكن حذفه، وفولاذ لا يمكن كسره، ولأنه أنهك الجلادين من جلاوزة ناظم گزار في زنازين وأقبية الامن، وأتعب جلادي سجن (إيفين) الايراني الرهيب، وأرهق مخابرات برزان التكريتي وهم يلاحقونه من قرية لأخرى، في طول وعرض مدن كردستان، بل وأرهق حتى مرض السرطان الذي لن يصمد أمامه أحد، ولم يقو على مواجهته أقوى الرجال، لكن (أبا فيان) واجهه بشراسة، وبقي صامداً أمامه 13 سنة، فكان السباق شرساً بينهما، ولم يكن سباقاً متكافئاً، أو أخلاقياً قط، إنما كان نزالاً بين إنسان من لحم ودم ومزاج وعاطفة وقلب ينبض بالحب والحياة، وبين مرض خبيث لا قلب له ولا عاطفة.. حتى ان هذا المرض لم يترك موقعاً في جسد أبي فيان، إلا وزرع به خلاياه السرطانية.
ورغم كل الاوجاع والآلام الرهيبة التي كان يقاسيها، انتصر أبو فيان عليه، حيث ظل واقفاً كالطود الشامخ 13 عاماً، يمارس حياته بكل جمالها، وكأنه لم يصب بهذا المرض القاتل المميت.. ولأن حيدر الشيخ علي هكذا، فقد نال عجبي و(شكي) برحيله قبل اسبوع، رغم أني مؤمن تماماً بأن لكل حي أجلاً، ومؤمن بما يهزج به أهلنا في الجنوب بقولهم: كل حي بالدنيا عليه موته..
نعم، فثمة أشخاص استثنائيون، لا تصدق نبأ رحيلهم، حتى لو كنت قد شاركت بنفسك في مواراتهم التراب. وأشخاص رحلوا، لكنهم ظلوا (أحياءً يرزقون)، وبقيت أسماؤهم لامعة لا يجرؤ صدأ النسيان من الاقتراب منها.. وقطعاً فأن هناك الكثير من القراء يتفقون معي في هذه الجزئية، بل ولديهم حشد من هذه الأسماء العصية على الغياب والنسيان. وبرأيي الشخصي القاطع، فأن المناضل لايموت أبداً
وقد تأكد لي ذلك امس، حين رأيت أمامي مراسم استقبال وتشييع جثمان المناضل الشيوعي الكبير حيدر شيخ علي في اربيل.
وقبل الحديث عن هذه المراسم دعوني احدثكم عن (شخصية) حيدر شيخ علي، وهو حديث قد يراه البعض خيالاً جامحاً، او شيئاً من (الفانتازيا) التي لا تمت للواقع بصلة!
وأنا أقول ربما يكون ذلك، لكنها (فانتازيا الواقع)، التي تمتزج فيها الواقعية بالفانتازيا .. يقول الشاعر كاظم اسماعيل الگاطع:
” هو طريقين العمر ..
واحد مذلة ومزبلة تاريخ
والثاني شمس..
واثنينهن يتلاگن بحلگ الگبر” !
وأنا أقول: صدقت أيها الشاعر الفذ: (هو طريقين العمر ..واحد مذلة ومزبلة تاريخ، والثاني شمس.. واثنينهن يتلاگن بحلگ الگبر)..
أي أن (واحداً) يخرجونه من (حفرة الذل) مبتلاً سرواله بماء العار، ويموت ميتة جبانة معيبة، فيخجل منه أهله وخله، ويستحي منه رفاقه وأصحابه.. فلا يجد أحداً يأسف لرحيله، ولا شخصاً يقف ملوحاً بوداع جثمانه. بينما تجد شخصاً آخر، تبكيه العيون بحرقة، ويشيعه الناس بالورد، وقصائد الوداع، وبالكلمات المعطرة بأريج الحب، وتجد حتماً مئات المشيعين يحملون نعشه على أعناقهم، ويتنافسون على نيل هذا الشرف.. فيحزن على موته الصغار والكبار، الرجال والنساء، نعم هكذا سيكون رحيل المناضل والمجاهد، والإنسان الشريف، والشجاع النزيه..
وهكذا رأينا استقبال وتشييع وتوديع جثمان حيدر شيخ علي أمس.. فقد كان بمثابة الاستفتاء حول رأي الناس وموقفهم، وشهادتهم ، بحق الأبطال، المناضلين، الوطنيين، النزهاء، وكي اكون دقيقاً، فإن هذه المراسم قد أظهرت بشكل واضح لاشك فيه، كيف ينال المناضلون اوسمة استحقاقهم النضالي من الحب والتقدير عند رحيلهم، كما كانوا ينالون هذا التكريم في حياتهم أيضاً، وهذا هو لعمري الثمن الأشرف للنضال والتضحية..
لقد دفن المناضل حيدر شيخ علي في مقبرة الشهداء في اربيل، الى جانب رفاقه الشهداء، والى جوار قبر القائد الشيوعي الكبير عزيز محمد، وهذا برأيي اول أوسمة التكريم.. أن يدفن المرء في مقبرة الشهداء لهو شرف ما بعده شرف..
أما التكريم الثاني، فقد تمثل بهذا الحضور الباهر والكبير.. نعم فقد حضر مراسم وداع الثائر حيدر شيخ علي، فرسان الثورة الكردية بمختلف رموزها وشخصياتها، وقياداتها، وبنادقها، وحضر النضال الوطني العراقي بشخص سكرتير الحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي، وحضرت البندقية الشيوعية بمآثرها وعنفوانها عبر حضور ممثلين عن شجعان الأنصار الشيوعيين..
وحضرت الفاعليات المدنية والسياسية والنيابية والاجتماعية، بمختلف توجهاتها وميادينها.. وحضرت طبعاً عائلة الفقيد الراحل، وفي المقدمة وقفت ابنته فيان شامخة مثل أبيها، رغم آثار الحزن البادية على ملامحها، وبجانبها كانت شقيقتها السيدة إنتظار، وفي الوسط وقفت زوجته أم بلند، وولداها، فضلاً عن بقية أفراد الأسرة.. ولعل الظهور الأبرز كان لرفيق حيدر في النضال والقتال، صديقه الأعز والأغلى، الدكتور جاسم الحلفي، الذي انهار ووقع حزناً اكثر من مرة، والصور تترجم هذا الأسى والحزن الرفاقي الصادق والأصيل. حتى أن أحد أفراد أسرة جاسم الحلفي، قال: ( لم يبك جاسم الحلفي على أمه التي رحلت قبل فترة، مثلما بكى في رحيل رفيقه وصديقه حيدر شيخ علي).
ولا أحد يشك في ذلك قط فقد كانت العلاقة بين حيدر وجاسم علاقة فريدة، حيث كانا أخوين، ورفيقين، وصديقين، لم ولن تتكرر صحبتهما أبداً ..
ختاماً أقول: إن المراسم التوديعية لجثمان المناضل حيدر شيخ علي في اربيل امس، ستعطي حتماً آثارها العظيمة، وتفرز نتائجها الباهرة في مسيرة السياسيين، فهي بقدر ما سترفع رؤوس المناضلين والوطنيين والمسؤولين الشرفاء، و(تبيض) وجوه الأبطال المجاهدين، فإنها أيضاً ستحرج الخونة والجبناء والعملاء، و(تصخم) وجوه الفاسدين، واللصوص، مادام للعمر طريقان كما يقول الكاطع: (واحد مذلة ومزبلة تاريخ، والثاني شمس، واثنينهن يتلاگن بحلگ الگبر .. )!