بقلم : حيدر قاسم ..
منذ ايام و أنا يتملكني سؤال مهم، سؤال محوري بالنسبة لي، على الأقل في سياق محاولاتي استعادة وفهم جزء من ما مضى من تاريخ بلاد حافل بالأحداث و التحولات العميقة، و أيضاً التغييرات الدراماتيكية التي لا تجعل المرء يتمكن من التقاط انفاسه، و يحدد الرؤية بوضوح، السؤال الذي يشغلني، هو ليس جديداً، و لربما اجاب عنه المئات من الكتاب و المثقفين، بل و حتى من لديه أدنى اطلاع في الواقع السياسي و الثقافي و الأدبي، اذ أن السؤال الذي يكون حاضراً في نقاشات النخب الثقافية و الادبية على الدوام، هو عن موعد ولادة ” الثقافة الوطنية العالمة” كما تسميها الكاتبة فاطمة المحسن، في كتابها تمثلاث الحداثة في العراق، اذ أن الاجابة عن هذا السؤال، تعني فيما تعنيه، اكتشاف موعد ولادة العراق الحديث.
العراق الذي عرف العلوم و الثقافة و الفنون و الآداب، بعد انقطاع حضاري لربما تجاوز الخمسة قرون على الأقل، و هنا لا يمكن لأي باحث منصف أن يُهمل موعداً، أو لحظة انثباق هذا النوع من الوعي الجديد في اكتشاف العالم، حتى يتمكن من تسميتها بوضوح، و عنونتها مع ميلاد حزب وطني أصيل، حزب كانت الارهاصات و التشكلات الأولى له، هي تمظهرات ثقافية، و محاولات أدبية قادها رعيل من الأدباء الأوائل، و انتهت لتأسيس صفحة تامة، متكاملة في تاريخ العراق برمته، صفحة امتزاج السياسي بالثقافي، أو كما يعبر أحد الباحثين في الشأن الثقافي، بأنها اللحظة التي انطلق منها و الى الأمام أول مشروع إنساني، ينشد التقدم، و ينبذ الرجعية، و تغليف الواقع بصفحات ماضوية مستهلكة.
بمعنى آخر، أو لنعبر عن السؤال الذي اردت أن أكتبه هنا، بتساؤل مشروع جداً، ماذا لو الغينا الحزب الشيوعي العراقي من تاريخ الثقافة و الأدب و الفنون و السياسة؟، ماذا سيبقى من هذه الصفحات، و بماذا يمكن أن نحتفي على طول قرن من الزمان مر على تأسيس العراق الحديث؟.
الإجابة ستكون كارثية بكل تأكيد، فهل يستطيع أي عاقل، فضلاً عن كونه مثقفا أو باحثا أو اكاديميا، أن يتخيل مشهد العراق، دونما حزب مثل الحزب الشيوعي العراقي، الذي انجب طليعة الأمة، و قادة الفكر و الثقافة و الآدب و الفنون، و أثرى بنضاله و عطائه الساحة التي كانت قبلهُ قفراً، و منح الوطنية معنىً بعد أن كانت وثناً بنظر البعض؟!.
أسوق هذه المقدمة، و قد وقع نظري مرةً أخرى على قصة وفاء نادرة، بين شاعر عراقي، يساري معروف، و حزبه، الذي انتمى له مبكراً، و غادره تنظيمياً بشكل أبكر، لكنهُ لم يقطع معه حبال الود و الصلة، فتحولت علاقة فالح حسون الدراجي، الشاعر الميساني الرهيف، الذي اغترب منذ عقود الى ابعد نقطة عن بلاده لربما، الى علاقة صوفية جميلة، خالية من المصالح، خالية من أي بعد سوى البعد القيمي الذي يحيلنا الى مدرسة جميلة، مدرسة خالدة، تلك التي كانت شعلة لكل من يريد أن يسترشد بالعمل السياسي، او ينشد عملاً حزبياً حقيقياً، هدفه خدمة الناس، و شعاره نكران الذات، فواصل الدراجي على مدى خمسين عاماً تقريباً الاحتفال و الاحتفاء شعرياً بذكرى ميلاد الحزب الشيوعي العراقي في اذار، عبر اغانٍ يكتب كلماتها بكل حب و اخلاص، و يحرص على أن يختار لها من أجمل الالحان، و أعذب الأصوات، و يطلقها كبالونة فرح ملونة في سماء آذار الربيع، تعبيراً ووفاءً منه لمحبوبه الذي لم يكل و لم يمل من تحيته، و مواصلة التغني بكل ماضيه و حاضره، و التطلع الى مستقبله الذي سيمتد مقترباً من اليوبيل الماسي بعد اقل من عقد تقريباً.
هذا العام، و في الذكرى التسعين لميلاد الحزب الشيوعي، عاد العاشق، ليحفر على شجرة الذاكرة النظيفة، كلمات قلبه المشغوف، بالحزب و بتاريخ الحزب، و بجمال الحزب، و بنضال الحزب، و بإرث الحزب، و بكل ما يمت لهذه الشعلة المتوقدة على الدوام بصلة.
في هذا العام يضيء الدراجي بقناديل فرحه على توهج ” تسعين نجمة” مضيئة، ساطعة، تلك سنون الحزب الذي لم يشخ، و لن يشيخ ما دامت افكاره وضاءة، ناصعة، و ايادي قادته بيضاء من غير سوء، لم تمسسها نيران الطائفية، و لا ” سخام” السرقات المرعبة، فيكتب لنا نصاً يقول في مطلعه:
ما ضاع تعبك يا فهد
و ستار دمك ما ضاع
تسعين نجمة بالسمه
زرعن ضواهن بالكاع
من زاخو للفاو العشب
عالي يظل هذا الحزب
يكصونه و يخضر ابساع
أي حزب هذا الذي تقتلعه آلة الموت الرهيبة، و تدور حبال المشانق حول رقاب قادته الشرفاء، لكنه ينبعث كالعنقاء، ملامساً السماء، هكذا يرى الدراجي، بل و يرى أن هذا الحزب لم يعد تنظيمياً محصوراً بتعاريف السياسة وايدلوجياتها، بل صار مدرسةً لكل من يريد أن يعرف، و يتعلم النضال الوطني:
يل اسمك أصبح مدرسة
و السجن صار ابساتين
العادوك راحوا و انتهوا
و أنت بحلاة العشرين
عمرك مثل خيط الشمس
كل يوم اجمل من أمس
و إبداع يحضن ابداع
ما ضاع تعبك يا فهد
الدراجي يواصل بث رسائله المكثفة بهذا النص الغنائي الجميل، رابطاً كل ذلك الإرث، بواقع الأمس، اذ يرى أن ” دماء فهد”، صالحة لأن تروي أي أرض صالحة للثورة، صالحة لنشدان العدالة الاجتماعية، و رفع الحيف و الظلم عن الانسان، يقول:
ما ضاع تعبك يا فهد
و لا ضاع دمنه بتشرين
حنينه بيه جف الوطن
و ابصمنه على الحياطين
كل كطرة صارت سنبلة
و كل حرة مهرة مكذله
و كل لافتة بجفنه اشراع
ما ضاع تعبك يا فهد
.…. ..… …….. ……
يشار الى أن الأغنية، لحنها و وزعها الملحن الرائع ابراهيم السيد، و اداها باتقان عال، و احساس ملتهب الفنان المقتدر محمد عبد الجبار، بصوته الشجي، و قوة حضوره الادائي المتميز، وانتجتها استوديوهات مدينة الفن، و اشرف على الهندسة الصوتية نبيل وحيد، فيما كان الفنان مالك محسن مشرفاً فنياً على العمل.