حقبة تاريخية:
تعُبّر الدكتورة نوال السعداوي عن دهشتها، (ويقول ارباب الفلسفة، أن الدهشة بداية الفلسفة)، أنها كلمها سارت في أزقة التاريخ البشرية الموغل في القدم، أي ” قبل ظهور الأديان، وقبل نشوء الأسرة الأبوية لتلك القيمة الإنسانية الكبيرة التي كانت تتمتع بها أنثى الإنسان”. وهي تتحدث عن فصل أطلقت عليه (الانثى هي الاصل). وتتزايد لديها هذه الدهشة، كما تقول، وهي تتصفح وريقات التاريخ، الذي يصف ما يجري من احداث حول حياة الانسان الطبيعية الاولى. فـ “في تلك العهود كان الإنسان طبيعيًّا، أي إنه كان يعيش حياته كما هي، ويتصرف تلقائيًّا، وفق رغباته ومشاعره وتفكيره”. وتوضّح أن الانسان – ذكرًا أو انثى – وحدة واحدة، وبنية متكاملة، أذ “، لم يكن هناك انفصال بين جسم الإنسان وعقله أو نفسه”. أي أن في تلك العصور البدائية للإنسان، كانت حياته بسيطة، ومتطلبات اليومية كانت قليلة، لم يكن فيها مثل هذا التعقيد الذي يطرأ عليها اليوم من منغصات ومعاناة كثيرة، رغم أن الانسان ترقى كثيرا، بفضل التقدم العلمي والطبي والتكنولوجي، وغير ذلك. وهي تلك الفترة التي:” لم تكن الأديان قد ظهرت بعدُ وظهر معه الفلاسفة الذين فصلوا بين الجسم والعقل، ولم يكن علم النفس أو السيكولوجيا قد ظهر بعد، أو تلك العلوم الأخرى كالبيولوجيا والفسيولوجيا، وأحدثت هذه المسافات بين الجسم والنفس”.
المرأة اصل الحياة:
فتلك الفترة، تصفها السعداوي بأنها “لم يكن قد حدث فيها بعدُ انفصالٌ بين عقل الإنسان وجسمه، كان الذكر والأنثى على طبيعتهما، وكان لكل منهما قيمته النابعة من طبيعته أو تكوينه البيولوجي”. ذلك المجتمع الاول البسيط الخال من التعقيدات، الذي تسير حياته بكل سلاسة وبساطة لا تعرف الملل، أدرك “أن الأنثى بالطبيعة أصل حياة بسبب قدرتها على ولادة الحياة الجديدة؛ فاعتبروها أكثر قدرة من الذكر وبالتالي أعلى قيمة”. واذا كان هذا صحيحًا، فأن الفكرة هذه، قد سولت للمجتمع أن يعتقد، بـ “أن الآلهة أنثى، وأنها آلهة الإخصاب والولادة والخضرة والوفرة والخير وكل شيء مفيد”.
ومن ذلك اليوم الذي أحصلت فيه المرأة على هذه القيمة الفعلية والفلسفية، وصار الكل يقر بعظمتها واهميتها و”استمرت هذه العهود آلاف السنوات، ولا أحد حتى الآن يعرف كم ألفًا من السنوات استمرت؛ لأن علم التاريخ لم يكن قد ظهر بعد، ونشوء علم التاريخ بالنسبة لنشوء أول الحياة الإنسانية يُعتبر شيئًا حديثًا، لكن معظم علماء التاريخ والأنثروبولوجيا في العالم يُجمعون على أنه في المجتمعات الإنسانية البدائية كانت للأنثى قيمة إنسانية واجتماعية وفلسفية أكثر من الذكر، وأن الإله القديم كان أنثى، وأنه قبل نشوء الأسرة الأبوية كان المجتمع البدائي أمويًّا، وكانت الأم هي الأصل وهي العصب وهي التي يُنسَب إليها أطفالها”.
ارتفاع مكانة المرأة:
ولم يكن هذا فحسب، من مكانة نالتها المرأة كما تؤكد السعداوي، بل رويدا رويدا قد “ارتفعت مكانة المرأة ارتفاعًا كبيرًا… وإذا كانت شعوب العالم المتقدم الآن تفخر بأنها تساوي بين الرجل والمرأة، فإننا نستطيع أن نفخر بأن هذه المساواة، بل وأكثر منها، كانت سائدة عند قدماء المصريين، وأن تشويه العلاقة بين الجنسين وسيادة جنس على الجنس الآخر لم تكن إلا نتيجة التشويه الإنساني الذي طرأ على الحضارة القديمة بسبب الأطماع الاقتصادية التي أصبحت تتزايد مع تزايد وسائل استغلال الإنسان للإنسان”.
والسعداوي تستشهد بالتاريخ المصري القديم، وتفتخر به في الوقت نفسه، لأنها تعتقد أن المصريين هم اول من اعطى قيمة حقيقية للمرأة وقنن المساواة بين الجنيين، على اعتبار أن مصر لها تاريخ عريق، وهذا مما لا شك فيه، فالحضارة المصرية لا تقل اهمية عن حضارة وادي الرافدين، سومر، آشور، بابل، فضلا عن الحضارات العالمية الاخرى. حتى “كانت المرأة تصل إلى مرتبة الإله كما يصل الرجل إليها، لم تكن الألوهية منصبًا ذكريًّا فحسب، ولكن تاريخ مصر القديم حافل بالإلهات اللائي كان يُقدَّم إليهن القرابين وتُقام لأعيادهن حفلات رائعة، ومنهن إلهة العدل وإلهة الحقول وإلهة السماء وإلهة الكتابة وإلهة الحصاد وإلهة الحب والجمال والخصب وإلهة السرور والموسيقى وإلهة الولادة”.
المشاركة فعلية للمرأة:
فمن تلك القضايا التي حصلت عليها المرأة في ظل تلك الحقب من الزمن، في مصر خصوصًا، فقد وصفت السعداوي حال تلك المرأة بأنها صار يعتمد عليها كعامل منتج حاله حال الرجل، اذا ما قلنا انها كانت هي الافضل في هذا المضمار، “فقد كانت المرأة الفرعونية تعمل في المصانع بالغزل والنسيج وصنع السجاجيد، وتعمل بالتجارة في الأسواق، وتشارك زوجها أعمال الصيد. وكانت الزوجة تُرسَم على المقبرة حتى الأسرتين الثالثة والرابعة (٢٧٨٠ قبل الميلاد) بحجم زوجها، كدليل على المساواة في الشرف والمكانة والحقوق والواجبات. وفي تمثال «بانجم» (في معبد الكرنك) تتقدم الزوجة زوجها، وهناك نُصُب تذكاري خاص بالسيدة «بيسيشت» من عصر الدولة القديمة يبين أنها كانت مديرة للأطباء. وقد حوكم أحد الأزواج لأنه سب زوجته؛ فأصدر القاضي حُكمًا بجلد الزوج مِائة جلدة، كما قضى بحرمانه من نصيبه من المال الذي كسبه بالاشتراك معها إذا عاد إلى سبها”.
منزلة المرأة الثقافية:
وفضلا عن ذلك، فقد حصلت المرأة على “حظ كبير من الثقافة، ويَحكي موظف اسمه «خنوم ردي» أنه كان أمينًا لمكتبة سيدة عظيمة تُدعى «نفرو كابيث»، ويقول إن هذه السيدة قد عيَّنتني في دندرة مشرفًا على خزائن الكتب الخاصة بأمها، وكانت تحب العلوم والفنون”. وعلى مستويات أخرى نالت حريات استطاعت تمارس من خلالها هواياتها الشخصية، مثل “الرياضة والسباحة والأعمال البهلوانية كالرجل سواء بسواء، وكان النساء كالرجال يشربن الخمور في الحفلات، بل ويُسرفن في الشرب ويقرعن كؤوسهن مع الرجال، وتقول إحداهن: ناولني ثمانية عشر قدحًا من النبيذ، إنني أريد أن أشرب حتى أنتشي، إن داخلي مثل القش”.
وأن كان مثل هذا قد يكون معيبا في مجتمعاتنا اليوم، ولا يسمح الرجل لزوجته أو ابنته أو شقيقته، بذلك، لأن القضايا الاجتماعية والثقافية، والتقاليد القديمة قد تغيرت اليوم، وتغيرت كل المفاهيم الاخرى معها، فهي ليست كتلك الثقافات، وكل شعب من الشعوب وله عاداته وتقاليده الثقافية والعرفية، بل وحتى القبلية والعشائرية. فلا ينبغي أن نربط تقاليدنا هذه بتلك.
المرأة والحكم:
وأما في مجال السياسة، وتولي السلطة، وقيادة الحكم، فتؤكد السعداوي، بأنه “كان للمرأة نصيب كبير في تولي العرش، وإذا مات الملك عن ذريةٍ أكبرها بنت أصبح العرش من نصيبها”. وتشير بأن ” بعض علماء الآثار المصرية مثل «أرمان» و«موريه» و«برستد» أن الابن الشرعي كان يُنسَب إلى أمه أكثر مما يُنسَب إلى أبيه في معظم الأحوال؛ وهذا يدل على سيادة الأمومة على الأبوة في نسب الأبناء، وهي امتداد للعصر الذي كان يُعَدُّ فيه نسب الأم أقوى من نسب الأب. أمَّا الطفل غير الشرعي فكان يُنسَب إلى أمه في جميع الأحوال، وكان للمرأة حق الملكية وحق البيع والشراء وأداء الشهادة في المحاكم، وكانت تتساوى مع الرجل في الميراث، بل إن نظام التوريث في أسر النبلاء في عصر الدولة الوسطى (٢٦٤٠ق.م) كان يأتي عن طريق الإناث لا الذكور، فلم يكن الابن هو الذي يرث، وإنما كانت كبرى البنات. واشتغلت المرأة بكل الأعمال، كانت حامية وحاكمة وملكة وكاهنة وإلهة. الإلهة «ماعت» كانت ربة الحقيقية، و«نات» إلهة الحرب. وكذلك الإلهة سخمت والإلهة حتحور إلهتان للحرب، وكانت الإلهة «نايت» تتقدم الملك في المعارك الحربية، وتضع على رأسها تاج الوجه البحري، كما سموها أيضًا إلهة الفيضان التي تسكن شواطئ النيل. ومن الملكات المصريات القديمات الشهيرات: حتب، حرس، وخنت، كاوس، كليوباترة، وأماح، وحتشبسوت، وتي، ونفرتيني، وغيرهن ممن لعبن أدوارًا بارزةً في التاريخ المصري القديم”.
المرأة والحجاب:
وعلاوة على كل ذلك، لم تكتف المرأة في تلك الحقب التاريخية، بما حصل عليه من منجزات وحقوق ومساواة، جعلت منها أن تصل الى منزلة الرجل، وتتبوأ مناصب رفيعة بل” كانت المرأة المصرية القديمة تعرف قيمة نفسها كإنسانة لها عقل وذكاء، ونظر إليها المجتمع نظرة متساوية مع الرجل، فساهمت في الحضارة الفرعونية وشاركت في أول حضارة إنسانية ظهرت على وجه الأرض، وحاربت في أول حرب لتحرير البلاد من المستعمرين، واشتركت في تأسيس أول إمبراطورية عرفها التاريخ القديم قبل ظهور الأديان بآلاف السنين. ولم تعرف المرأة المصرية القديمة الحجاب، وكانت تختلط بالرجال، وتشاركهم العمل والإنتاج والحرب والتجارة والعلوم والفنون والأفراح والسهرات والشراب وكل شيء، وكانت أيضًا سيدة البيت في أسرتها لها مكانتها العالية داخل البيت وخارجه”.
الختام:
وتختتم السعداوي بحثها بخصوص المرأة وعن قيمتها الانسانية وما حقته في معترك الحياة، في كل الاصعدة، وعن المنجزات التي حققتها من خلال تاريخها العريق، في خضم حياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي عاشتها مع الرجل، جنبًا الى جنب، حتى وصلت الى ما وصلت اليه، من عطاء ثر تفتخر به المرأة اليوم، وعلى كل المستويات. تختتم بالقول: “والذي يدرس شخصية الملكة المصرية حتشبسوت يدرك قوة المرأة النابعة من شخصيتها وذكائها وقدرتها على القيادة والحكم؛ ولهذا ظهرت تماثيلها على شكل أبي الهول، لها رأس إنسان، وُجد رمزًا للعقل والقوة معًا. وكان عصر حتشبسوت يتميز بالازدهار والتعمير، وأثبتت كفاءتها كحاكمة وملكة أكثر من ملوك كثيرين، لكنها بعد أن ماتت خلفها تحتمس الثالث، وأمر بتدمير تماثيلها وتشويه رسومها ونقوشها، وكأنما أراد أن يمحوَ من التاريخ السنوات الاثنتين والعشرين (من ١٥٠٤ إلى ١٤٨٣ قبل الميلاد) التي حكمتها. ويمثل تحتمس هنا بوضوح انتقام الرجل من المرأة بسبب تفوقها وذكائها وقوتها، وكما حاول تحتمس أن يشوه حقيقة حتشبسوت وينكر ذكاءها وقوتها حاول من بعده رجال كثيرون تشويه حقيقة المرأة وإنكار قوتها، فكيف كان ذلك؟!”.
من كتاب(الانثى هي الاصل) منشورات المكتبة العالمية- بغداد