بقلم .. فالح حسون الدراجي ..
سبقنا الزملاء المصريون في توصيفاتهم الصحفية الرياضية، وإطلاق الألقاب على نجوم الرياضة من المصريين وغير المصريين، وأذكر أنهم أطلقوا في ستينيات القرن الماضي، لقب (الأسطة) على لاعب منتخب العراق المرحوم حسن بله، بعد أن رأوا أنه لاعب (أسطة) في ميدان الكرة.. وأطلقوا على زميله لاعب المنتخب العراقي المرحوم حسين هاشم لقب (المعلم)، عندما تأكدوا أن هذا اللاعب معلم في فنون الكرة فعلاً.. وللحق، فإن المنتخب العراقي الذي لعب آنذاك عدداً من المباريات في ملاعب مصر، قد أمتع برمته جمهور الكرة المصرية..
وقتها كنا صغاراً ولم نعرِ اهتماماً لهذا التوصيف، وهذه الألقاب الغريبة علينا.
إذن، فكلمة (معلم) ليست جديدة في القاموس الكروي، بل هي مشاعة في مختلف ملاعب الكرة..
وفي تاريخ الكرة العالمية، ثمة (معلمون) لا يمكن لأحد إنكار (أستاذيتهم) في مدارس الفن الكروي، فهم ليسوا لاعبين مهرة وأفذاذا فحسب، إنما هم لاعبون استثنائيون، ومختلفون، أمثال مارادونا، وكرويف، وجورج بيست، وجارنيشا، وحارس مرمى الاتحاد السوفيتي ياشين، والبرازيلي رونالدينهو، وغيرهم من عباقرة الكرة.
نعم، فهؤلاء لاعبون أمتعوا التاريخ الكروي بفنونهم، وبجمال أدائهم، وسحر العابهم، وقطعاً ليس هناك نقاش، أو جدال، أو نقطة نتوقف عندها في هذا الموضوع.. لكن النقطة التي يجب أن نتوقف عندها طويلاً، تكمن في هذا الكائن الخرافي المدعو (ميسي) !
فميسي ليس لاعب كرة موهوبا مثل مارادونا وبقية أفذاذ الكرة فحسب، ولا هو هداف من الطراز العالي مثل بيليه وبقية الهدافين العالميين الآخرين فحسب أيضاً، إنما هو (فلسفة) خاصة في كرة القدم، يتوجب تدريسها في جامعات الإبداع الكروي.. وهو نظرية متحررة من جميع القيود الهندسية، والإشتراطات العلمية التي تشترطها، وتتقيد بها النظريات الأخرى، بمعنى، هو لوحده نظرية، ولبساطتها ورشاقتها، يمكن تطبيقها في أي ميدان وأية ساحة كروية في العالم، سواء أكانت في ريو دي جانيرو، أو في ليفربول، أو في دكار، أو في مدينة الصدر..
وميسي ليس لاعب كرة فنانا، مثل رونالدينهو الساحر فحسب، إنما هو فنان (أصلاً ) وقد مارس كرة القدم.. بمعنى أن هذا الفتى قد خُلق ليكون فناناً، توافرت فيه كل (جينات ) الفن، وسحره، وجماله، وحين لعب الكرة، انتقلت هذه ( الجينات ) الفنية الى ميدانه الكروي.. فصار لاعباً وفناناً معاً ..
أما (الأستاذية) التي منحتها لميسي في عنوان مقالي هذا، فهذا أمرٌ يستحق عليه بحثاً خاصاً، أو أطروحة جامعية ينال عليها كاتبها شهادة الدكتوراة، إذا ما تمكن من تقديمها بشكل يتناسب وحجم ميسي الكبير..
وربما يسألني سائل: كيف يكون ميسي (أستاذاً) وهو لم ينل تحصيلاً دراسياً عالياً، خاصة وأنه انخرط في الميدان الكروي المحترف مذ كان صبياً، وقطعاً فإن ظروفه الإحترافية لم تسمح له بمواصلة الدراسة، وعليه فإن تحصيله لن يكون أعلى من المرحلة الثانوية، إن لم يكن دونها؟!
وجوابنا على هذا السؤال: إن ميسي ( أستاذٌ ) في أكثر من تخصص ومجال، ولو أحصينا (أستاذياته) في هذه التخصصات والمجالات المختلفة، لوجدنا في خزانته اليوم، عشرات الشهادات العالية، والإعترافات المؤسساتية به، وبقدراته الإعجازية..
فميسي مثلاً ( أستاذ) في تخصص (الجمال) والسحر الكروي .. ولا أظن أن أحداً يعترض على هذا الإستحقاق..
وميسي ( أستاذ ) في تخصص الرسم كذلك.. ولو كان بيكاسو حياً، لبصم على شهادة الإعتراف بما يرسمه ميسي في اللوحة الخضراء من الوان وخطوط وجماليات سريالية مدهشة.
وميسي (أستاذ) في تخصص الموسيقى أيضاً.. فأنا واثق أن بتهوفن لو كان حاضراً أمس الاول في مباراة برشلونة وأتليتكو بلباو في نهائي الكأس، وشاهد بعينيه الهدف (الثالث) الذي (عزفه) ميسي في ملعب، أو في ( أوبرا) لاكارتوخا لمنحه تسمية إحدى سمفونياته الموسيقية الخالدة!
وميسي ( أستاذ) في تخصصات التحمل والمقاومة والصمود والصبر، فهذا الفتى المريض منذ طفولته، والذي كان متأرجحاً بين الموت والحياة، استطاع بصبر عجيب، الإستشفاء والمواظبة على العلاج لمدة سبع سنوات، وكان عوده أضعف من عود ( الريحان) الذي يكسر في الهواء، لكن الفتى ميسي انتصر بصبره وإيمانه وثقته بنفسه وبجدوى الحياة، انتصر على المرض والعوق والهزال، وبات اليوم قوياً كالحجر الذي يكسر كل من يريد كسره، وقد رأيناه أمس الاول كيف كان هدفاً لركلات ونطحات ومخاشنة لاعبي بلباو !
فهذا هو ميسي، الذي يمتعنا بأدائه وروعته، فهو لا يمتعنا من أجل المتعة فحسب، إنما أيضاً يسكرنا بخمرة فنونه وسحره، فينسينا أحزاننا، وأوجاعنا، وعوزنا، وكل ما يأتي لنا به هذا الزمن العجيب.. زمن الكرابلة!.