مصالح البلاد العليا : دقة الذكاء بين الواقعية والأيديولوجية.
بقلم : د. مظهر محمد صالح ..
ليست بلادنا جزيرة منعزلة يتقاذفها المحيط الدولي فيما بينه من مصالح وقوى وصراعات سياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها لنجد انعكاساتها في منأى على استقرار بلادنا بشكل او بآخر. فالسياسة الخارجية الناجحة التي توفر الامن والاستقرار في التعاطي مع الأزمات التي تعصف في المجتمعين الدولي والاقليمي ،تقتضي على الدوام توافر سياسات واقعية ذكية و مرنة وفعالة ومقتدرة على فك سلاسل القيود المحيطة بنا مهما بلغت مصاعبها وتحدياتها .
اذ تعد المصالح العليا للبلاد خطًا أحمر يتقدم على أي اعتبارات أخرى (أيديولوجية وسياسية أو حتى تحالفات دولية).
فعادةً ما تسعى الدول لتحقيق هذه المصالح بأسلوب واقعي، يوازن بين الضغوط الدولية والاحتياجات الوطنية ،مع اهمية الحفاظ على حرية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو التبعية لدول أخرى.
وبالرغم من ذلك يبقى الفرق( بين التعاطي الإيديولوجي والتعاطي الواقعي في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية) يكمن في الأساسيات التي توجه صنع القرار والأهداف التي تسعى الدولة لتحقيقها والتي منها على سبيل المثال ، السعي لنشر قيمها وأيديولوجياتها، أو تعزيزها على الصعيد الدولي، دون ان يكون ذلك على حساب المصالح المادية أو التوازنات الواقعية.
اذ ان مرتكز ذلك هو الواقعية السياسية و التي تركز أيضاً على القوة والمصلحة الوطنية كأولوية مطلقة.
فتقديم المصالح الإيديولوجية و التعاطي بها بمفردها ، قد يؤدي إلى صراعات أو عزل دولي إذا كانت القيم التي تسعى الدولة لنشرها تتعارض مع مصالح الآخرين الى درجة الصدام التناحري.
أما تقديم المصالح المجردة بواقعية شديدة ، او مايسمى( التعاطي الواقعي (فقد يؤدي إلى انتقادات داخلية وخارجية بسبب التنازل عن القيم أو التعاون مع أنظمة غير ديمقراطية أو قمعية ).
ففي احدث مقال للمفكر السياسي ابراهيم العبادي بعنوان :نحو تقدير مخاطر جديدة ، يقول العبادي(( اذا شئنا التفريق بين اتجاهي التفكير هذين ،يمكننا ان نصنف مدرستين في القراءة والتحليل ،المدرسة الواقعية والمدرسة المثالية او لنقل المدرسة الايديولوجية ،المدرسة الواقعية تدرس الوقائع وتحاول قراءتها من منظور عملي مادي حسابي ، لاتدخل فيه الامنيات والرغبات والمثل ،انها تسعى لتقدير المخاطر وحساب الكلف وتحصيل المصالح وجني المكاسب وتجنب الخسائر أو تقليلها الى ماأمكن ، المدرسة الواقعية تريد الاستعداد المبكر للطواريء من اجل حساب الامكانات والتكيف مع المتغيرات السياسية والامنية والعوامل الاقتصادية المفاجئة ،ان جمع الادلة والمعلومات واعتماد الارقام وقياس المدخلات والمخرجات ، اصول اساسية في حساب المخاطر ،ولاتدخل الحسابات الشخصية والتصورات والتوقعات ذات الاحتمال القليل في هذه التقديرات ،لاشك ان احدى المشاكل الكبرى في اضعاف تقدير المخاطر هو المراهنة على عوامل غير مرئية، لايمكن حسابها بناء على وثوقية عقائدية أو نبوءات دينية ، او انزال اخبار او مرويات منزلة المصاديق الواقعية )).
ولكن ينبغي ان لا ننسى دور المرجع الديني الاعظم سماحة السيد علي السيستاني عند استقباله ممثل الامين العام للامم المتحدة في تاريخ 4 /تشرين الثاني / نوفمبر 2024 حيث اشار سماحته الى حجم المعاناة التي تعاني منها البلاد على أكثر من صعيد، داعياً العراقيين، وعلى وجه الخصوص “النخب الواعية”، إلى أن يستلهموا العِبر من التجارب الماضية ويتحملوا مسؤولياتهم في تجاوز إخفاقاتها.
اذ يشير المفكر الدكتور عقيل الخزعلي في مقال له بهذا الشان تحت عنوان : النُخَبُ الواعِيّةُ: رهان المستقبل للعراق بين التحديات والطموحات،قائلاً ((انها ليس ذلك مجرد دعوة عابرة، بل هو نداء يحمل بين طياته أبعاداً استراتيجية تستهدف إيقاظ وعي هذه الفئة المؤثرة، وتوجيه بوصلتها نحو تحمل الدور المحوري في قيادة العراق نحو مستقبل ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والرُّقي.
ولكن، من هم النخب الواعية التي قصدتها المرجعية؟ وما الدور الذي تنتظره منهم في هذه المرحلة الحرجة؟ ولماذا ركزت المرجعية على هذه الفئة تحديداً دون غيرها؟ وما الأدوات التي يجب أن تمتلكها لتتمكن من أداء هذا الدور الجوهري…. ؟؟ إن المهام التي تنتظرها المرجعية من هذه النخب ليست بالهينة؛ فهي تدعوهم إلى استيعاب دروس الماضي بكل مرارتها وفشلها، والعمل الجاد على صياغة خطط علمية وعملية قائمة على مبدأ الكفاءة والنزاهة. كما طالبتهم المرجعية بتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد بكل أشكاله، ومنع التدخلات الخارجية التي تستهدف سيادة العراق واستقلاله. هذه المهام تمثل ركائز أساسية لأي عملية إصلاح شاملة، ولكنها تتطلب جهداً استثنائياً وإرادة حقيقية من النخب، تتجاوز مجرد التنظير إلى العمل الميداني الفعّال.
ولكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا كما يقول الخزعلي : كيف يمكن للنخب أن تؤدي هذه الأدوار الكبيرة؟ الإجابة تكمن في تبني منهجية شاملة تقوم على عدة محاور أساسية. أولها؛ الوعي الكامل بالمشكلات الحقيقية التي يعاني منها العراق، من خلال دراسة معمقة تستند إلى بيانات دقيقة وتحليل علمي موضوعي. ثانيها؛ تطوير المهارات القيادية للنخب من خلال التدريب والتأهيل المستمر، بما يمكنهم من قيادة عمليات الإصلاح بفعالية. ثالثها؛ بناء شبكات تعاون قوية بين مختلف مكونات النخب، سواء كانت أكاديمية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، لضمان تكامل الجهود وتوحيدها نحو تحقيق الأهداف المشتركة. رابعها؛ تعزيز القيم الأخلاقية كالشفافية والنزاهة، لتكون النخب قدوة للمجتمع، وخامسها؛ التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى الذي يتعامل مع العراق كدولة ذات إمكانيات هائلة تحتاج إلى توظيفها بشكل عقلاني ومدروس)).
ختاماً ،ما اجده، ان توازن المصالح العليا للبلاد هي الأهداف الأساسية والمبادئ الجوهرية التي تسعى الدولة لتحقيقها والحفاظ عليها لضمان أمنها واستقرارها وازدهارها. فهذه المصالح تكون عادة فوق أي اعتبارات أيديولوجية أو خلافات سياسية وتاخذ الواقعية هنا مساحة كافية في صيانة تلك المصالح و بدرجات من الشفافية و الصدقية والمرونة للحفاظ على حرية اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو التبعية لدول أخرى كما نوهنا، فضلاً عن تعزيز المكانة الدولية لبلادنا وبناء علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والعالمية لجعل التأثير والنفوذ الفاعل ليصب في مصلحة البلاد والشعب في آن واحد .
(انتهى )