ماسح المدخنة
بقلم : د. مظهر محمد صالح …
ارتخت عيني امام منقل الفحم، الذي كان الدخان هو الوجود الوحيد الذي علا ازيز النار المشتعلة ،لابحث عن صاحب مطعمنا القديم ،مطعم الرصيف، فوجدته خلف ستار من اللهب مازال يقارع الحياة ويكابد من اجل البقاء،ولم تترك له كهولته الا الشيب، الذي اشرق عليه وتخطاه بيسر كالشمس والقمر وهو يتقلب على شغف العيش بعد ان احمرت عيناه والتهمته زرقة باهتة قلبت اخاديد وجهه وهي تصد حرارة النارعنه عبر زمن شديد العبثية. قلت له،وهو منهمك يتفحص بقايا قوته الخفية، وهو يقلب قطع اللحم على سحابات الدخان،من اين تحصل ياعم على الفحم ؟ اجابني بأْلم مغلف بالحزن الانساني، انها من تلك الجذوع المعمرة الهابطة جذورها في ارض احتضنتها بعد ان جرى اقتلاعها،ولم تشفع لها اظافرها التي انتشبت في عمق الارض، هاربة الى مجاهيل القاع،وهي مندفعة تعانق التحدي وتكابد الالم وقت اقتلاعها. قلت في سري،انه الصراع مع الطبيعة وان الانفلات في معرفة الضرورات(العلة والنتيجة) يجعلنا ان نحيل غاباتنا الى ميدان معركة لا تخلف سوى اكوام من الفحم الاسود في لعبة الطمع اسمها القطع الجائر ،وهي من لعب الفناء لمظاهر استقرار الطبيعة بعد ان فقد البشر توازنهم وهم يسعون الى حفنة من المال! غادرت مطعم الرصيف،وانا اتذكر تاريخ الثورة الصناعية،يوم كتب الشاعر البريطاني (وليم بليك)قصيدته الشهيرة(ماسح المدخنة) متناولاً ظاهرة تشغيل الاطفال الصغار في انكلترا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر،ممن هم بعمر الرابعة والخامسة، ووصف طريقة استخدامهم كادوات عمل رخيصة بانزالهم في عمق مداخن المعامل ومداخن المنازل لصغر حجمهم وتسخيرهم لتنظيفها من مقذوفات دخان الفحم المحترق وازالة بقاياه المتراكمة من على الجدران الداخلية في اعماق تلك الاعمدة السوداء المظلمة،وكيف كان يتعرض أولئك الاطفال الصغار الى الموت الداهم والفقدان السريع، لينتهوا في احضان الملائكة!!. انها قصائد الفحم يوم اصطبغ اولئك الصغار باللون الاسود ليتاح استعبادهم وتحويلهم الى فئة الرقيق البشري الداكن حيث ابتدأت العبودية فجر تاريخها بالميل الى الجنس الاسود! لم تنته العبودية بشكلها القديم بعد ان تحول البشراليوم الى اشباه رقيق تقني،ولم ينته الطلب على الفحم الطبيعي هو الآخر. اذ مازال الفحم، الذي يبلغ انتاجه نحو 7مليارات طن سنوياً،و يتم تحصيله حاليا وبنسبة 60 بالمئة عن طريق حفر المناجم الارضية،هو المصدر المهم لتوليد الطاقة في العالم والذي يقدر نحو 27 بالمئة من حاجة العالم الى الطاقة. وهو ياتي بعد النفط مباشرة في سد احتياجات سكان الارض الى مصادرها حيث يسد النفط حاليا حوالي36بالمئة من حاجة سكان الارض الى مصادر الطاقة. ختاما،لم تختلف حيرة صاحب مطعمنا الذي يكابد من على رصيف محلتنا وهو يقضي آواخر حياته بين دخان منقلته الغاضب،والبديل المفقود لمستقبله،وبين ماكابده (كيفن رود) رئيس وزراء استراليا قبل سنوات،إذ مازالت بلاده تتصدر الاولوية منذ العام 1797 في تعدين الفحم وتصديره. فقد اختلط على الاخير الامر،وهو في حيرة بين اقناع المنظمات المدافعة عن حقوق البيئة في بلاده وهي تطالب بوضع قيد على انتاج الفحم المصدر وبين اتحادات المنتجين التي تدفع بها الارباح وفرص البيع الى مايحقق توسيع المداخن ومضاعفة اعدادها حول العالم. فالدائرتان،بين الرجلين،متداخلتان في حيرتهما ولاتفصل بينهما عبر البحار سوى مساحات خريطة جيولوجية محفورة مغطاة بركام المداخن ومخلفات الدخان.