رواد التجهيل البحري
بقلم: كاظم فنجان الحمامي …
من يمضي حياته الوظيفية في المجال البحري لابد ان تتوفر لديه صورة شاملة لتناقضات بعض الذين تعايش معهم واطلع عليهم عن كثب، لذا اسمحوا لي باستعراض خصال الانطوائيين والانعزاليين منهم. .
ففي المدة التي كنت اعمل فيها على ظهر سفينة الحفر (المربد) كان معنا رئيس المهندسين (ميم سين) وكان من أفضل المهندسين الذين يتقنون مهنتهم، لكنه يتجنب الاحتكاك بالطاقم، ويرفض الجلوس معنا في صالون الضباط والمهندسين، يقضي وقته كله منطويا على نفسه، قابعاً في غرفته القريبة من غرفة الكابتن، ويعيش في هذا التكهف الاختياري لأيام وأيام، بل انه لا يعرف أسمائنا، حتى عندما نلقي عليه التحية لا يرد علينا، كان منفردا بتعاليه وتكبره على جميع أفراد الطاقم. .
وأذكر أيضا المواهب الهندسية الفريدة التي كان يتمتع بها الاستاذ (ميم حاء) في هندسة بناء السفن، كان يمضي وقته كله منكباً على دراسة المرتسمات المعمارية المعقدة، ولديه قدرات نادرة في خوض غمار المعضلات الرياضية الصعبة. كان يبهر شركات بناء السفن ببراعته في التحاور مدافعا عن تعاقدات الموانئ العراقية، لكنه كان يرفض تسخير مواهبه في تعليم الآخرين وتدريبهم، وأذكر ان المدير العام هدده بالإحالة الى التقاعد ما لم يكن متعاونا في تدريب المهندسين المبتدئين، فكان جوابه انه على استعداد لتقبل التقاعد القسري رافضا نقل خبراته الى الآخرين. .
وعلى السياق نفسه أذكر اننا في السبعينات كنا نتدرب مع كبار المرشدين القدامى، وكان بعضهم يرفض تعليمنا وتدريبنا، طلبت من أحدهم في يوم من الأيام ان يعلمني اسم الفنار الملاحي الواقع على ضفاف شط العرب في منطقة الدورة، فقال لي مستهجناً متهكماً: أتريدني ان اعلمك باسم هذا الفنار ؟، ان الزمن وحده هو الكفيل بتعليمك وليس أنا. ثم اشاح بوجهه عني ولم ينطق بحرف واحد. .
ربما يتصور البعض أن خصال التجهيل لم تعد كما كانت في السابق، فوسائل التواصل الحديثة، والانفجار المعلوماتي الرهيب، وإمكانية الوصول للمعلومة أصبحت أسهل من أي وقت مضى، وأصبح الناس يتمتعون بقدر من التحرر المعرفي، وذلك صحيح إلى حد ما، لكن ما ينبغي التنبه له أنه بقدر ما منحتنا تلك الوسائل من أدوات للمعرفة والتوثيق والتحقق، إلا أنها في الجانب الآخر ضاعفت من القدرة على التضليل والتشويش، وضاعفت من سرعة نشر المعلومات المضللة، بسبب الإدارات الغبية التي استحوذت على المواقع القيادية، وصارت تضطهد الخبراء والموهوبين واصحاب المهارات النادرة. فالشخص المناسب لم يعد في المكان المناسب. .
والحديث ذو شجون