شكراً جزيلاً .. وهل يَفي الشكر ؟
بقلم : فالح حسون الدراجي …
أمس، وفي قاعة الشاعرة نازك الملائكة، حيث الاحتفالية النبيلة التي أقامها لي إخوتي وأحبتي في جمعية الأدباء الشعبيين في العراق، وحضرها جمهور كبير لم تستوعبه مقاعد القاعة، فوقف بعضه عند الأبواب وخلفها، بينما عاد البعض الآخر حزيناً بعد أن يئس من الحصول على مكان يجلس أو يقف فيه.. أمس وفي تلك الأمسية، كان مدير الجلسة ماجد عودة، رائعاً ووافياً في التقاطاته الذكية، ومُلماً بشؤوني الشعرية، فضلا عن روعة الشهادات والمداخلات التي ظهر بها جميع المتحدثين امس.
في تلك الجلسة المدهشة، بكيت مرتين: مرة حين قراً الشاعر الجميل رياض الركابي، قصيدة عني، فيها من الحب، والود، والجمال، الكثير الكثير، ما جعلني أذرف دمعاً حاراً قد لا أذرفه على فقد عزيز .. ومن فرط إعجابي بالقصيدة، رحت أحسب مع نفسي، كم ليلة ياترى سهر رياض من أجل كتابتها، وكم مرة وثب من فراشه نحو الورق والقلم ليدون صورة شعرية أمسك بها قبل أن ينام، أو بيتاً داهمه وهو يضع رأسه على الوسادة، أو فكرة قنصها وسعى الى أن يرصفها مع ما شيده في بناء هذه القصيدة.. وياترى كم خلية أحرق رياض من خلايا روحه، وكم عصب من أعصابه استفز، وكلنا يعرف كيف وكم من الأعصاب نستفز ونحرق حين نبحر في حرائق القصيدة، وكم نذوب مثل شمعة حين نكتب بيتا دارميا أو أبوذية، فما بالك بقصيدة رائعة وكبيرة مثل هذه القصيدة..؟
لقد كان رياض يُرتل قصيدته على منصة نازك الملائكة، وأنا أرتدي جناحين فضيين وأحلق بهما معه في سماء زرقاء صافية، سماء لم تصل اليها الأحقاد والضغائن، سماء ناصعة مثل أفئدة اولئك الذين جلسوا في تلك القاعة، وجوه ذابلة، وظهور محنية، لكنهم يحملون قلوباً كالبلور، وأرواحاً مثل حمامات بيض.. ما هذا الوفاء، وما هذه الروعة؟
ها أنا أعود في البيت الأخير من قصيدة رياض الركابي، لأضع سؤالاً لي ولرياض ولكل الحضور: لماذا صرف رياض كل هذا الجهد في كتابة هذه القصيدة، ولماذا خصّني دون غيري بهذا الجمال الوافر من الشعر.. فهل أنا وزير، أو مسؤول كبير في الدولة كي ( يتملق ) لي – وحاشا رياض من التملق – أم أنني رجل ثري، فكتب عني هذه القصيدة العصماء، كي أقول: اعطوا الشاعر ألف درهم ؟!
والجواب: يقيناً غير ذلك.. الجواب الوحيد مسطر في صدقية القصيدة، وقوتها، وحرارتها، فعمر القصيدة المكتوبة بغير الحب، ما صارت دافئة، أو صادقة، أو ( قوية)..
إذاً، كانت قصيدة رياض، قصيدة حب ووفاء وانتماء، قصيدة مكتوبة بماء العين، وجمر الروح، واشتعال النبضات، لذلك جاءت قصيدته عني حلوة ومدهشة ونقية، تتوفر على شعرية عالية وجمال باذخ.. لقد اختصرت القصيدة مشاعر الحاضرين.. وصدق الحاضرين، ووفاء الحاضرين، وانتماء الحاضرين.. لذلك بكيت بحرقة في كل أبياتها، بكيت من فرط محبة هؤلاء النبلاء الأوفياء.. لا سيما وأن فيهم الوزير والجندي والمدير، والقائد السياسي، والأستاذ الجامعي.. الفنان العظيم والشاعر الجميل والصحفي الكبير، الشباب والشيوخ، الأصدقاء والزملاء, الرجال والنساء، فأي وعاء ذهبي هو قلبي، ليستوعب كل هذه الدرر اللامعة؟
وهنا، لا أملك غير أن أقول لهم جميعاً: شكراً جزيلاً، شكراً، ولكن هل يفي الشكر؟
أما المرة الثانية التي بكيت فيها أمس، فقد كانت حين لمحت – وأنا على منصة التكريم – رجلاً تجاوز الثمانين من عمره، نحيلاً، حزيناً، لكنه بدا فرحاً بي وسعيداً بهذا الاحتفاء، وهذا الحضور الواسع، ومن بعيد، لمحت عينيه تدمعان، مما اضطر الى أن يمسحهما بمنديل أبيض.. وحين ركزت بقوة على ملامح الرجل، وقد انتبه لاهتمامي، ابتسم لي ابتسامة خفيفة، وأحنى لي رأسه قليلاً .. وكأنه يقول لي: لا تشغل نفسك بي.. اهتم بمحبيك وحضورك الكريم..
لقد كان هذا الرجل الثمانيني، أول مسؤول لي في الخلية الحزبية الشيوعية العام 1972..