بلاويكم نيوز

لماذا في نادي الصيد وليس في (مدينة الثورة)

0

بقلم: فالح حسون الدراجي ..

أقام نادي الصيد العراقي، حـفلا تـأبينيا للشاعر كـريم الـعراقي بــمناسبة اربــعينيته، حضره عدد كبير من الجمهور العراقي المتنوع .. وقد جاءت هذه الالتفاتة من نادي الصيد – وهي ليست جديدة على هذا النادي- بمبادرة من الدكتور حسنين معلة رئيس مجلس ادارة نادي الصيد، والسيدة سناء وتوت عضو مجلس الإدارة .. وقد تحدث في هذا الإستذكار المميز، كل من الزميل رحيم العراقي- شقيق الشاعر الراحل. كما تحدث الشاعر حميد قاسم، والزميل علاء الماجد، والباحث عادل العرداوي، وقد حاول المتحدثون أن يختصروا طول وعرض مساحات الحب المشتركة بينهم وبين كريم، بما يسمح به الوقت، وبما أسعفتهم به ذاكراتهم المعطرة باريج الوفاء المصحوب بألم وحزن فقد هذا العزيز .. كما كان للموسيقار علي خصاف، والأوكسترا، والأصوات الجميلة التي أدت بعضاً من الأغنيات التي كتبها كريم، حضور مميز في هذا الحفل النبيل.. فشكراً لإدارة نادي الصيد، وشكراً لكل من حضر وشارك في حفل الوفاء واحداً واحدا.

لقد شكرت نادي الصيد، وأعضاءه وجمهوره، ليس فقط لأنه بذل وقتاً ثميناً، وجهداً كبيراً دون شك، إنما لأن هذا النادي لعب دوراً ثقافياً واجتماعياً عبر هذا الحفل التأبيني، لم تلعبه مؤسسات الدولة الرسمية، ولا منتديات الثقافة والفنون أو الدوائر التربوية والاجتماعية المعنية .. باعتبار أن كريم العراقي كان واحداً من أبرز صناع الثقافة والوعي والجمال في العراق، ولا يمكن قطعاً انكار دوره ومنجزه الممتد لأكثر من نصف قرن. فهو لم يكن بقالاً من بقالي البصرة – مع احترامي للبقالين – ولا عابر سبيل، مرّ في حياتنا ومضى، كما مضى غيره، حتى ينسى، ويتم تجاهله هكذا، إنما هو شاعر مكتنز بالموهبة حتى النخاع، ومناضل وطني وانساني شجاع، لم يتوقف نضاله حتى وهو يواجه أخبث الأمراض وأشرسها.. وهو مواطن عراقي أصلاً وفصلاً وبدءاً ونهاية، ولد في العراق، ودفن في أقدس بقعة من أرض العراق .. نحن نتحدث عن شاعر أهدى لنا ولكل العشاق العراقيين، أزكى باقات الجمال التي جمعها من ورد قصائده، لذلك ظل أريجها فواحاً، يعطر صباحاتنا كل يوم جديد.. مثلما طرز وسائد ليلنا بالأمنيات الحلوة والأحلام السعيدة، وخط باشعاره على جذوع قلوبنا اسماء حبيباتنا، وتواريخ عشقنا، لتبقى تلك الأسماء خالدة وعطرة الى الأبد.. كريم العراقي ابن عودة لعيبي عامل الكهرباء، الكادح، الطيب، وابن مدينة الثورة، والذي كتب يوماً للخيّاطة (أول أغنية) في مشواره الشعري، حيث يستحثها ويتوسل بها أن تخيط للاطفال ثياب العيد قبل أن يصل العيد اليهم : (يخاله يلخياطة خيطي ثيابنا .. باچر يجينه العيد ويدگ بابنا)، وكتب كذلك لعمال المساطر وفقراء الشعب وهو لم يزل طالباً في الرابع الثانوي.. حين مزج الحب مع غبشة العمال، فقال : (أم اربعطعش وزلوف .. بحة بصوتها، وبسنونها الحلوين سن مكسور .. شفتها بغبشة العمال تتسوگ.. وجها الفضة مر بتراب سيارات وإتزوگ .. )!

وكتب لـ(بهيجة والجسر) ولدماء أبطال وثبة كانون، وهو في الثامنة عشر من عمره، وغرد لشعب شيلي وفلسطين وفيتنام، قبل أن تحط قدماه على عتبة العشرين من عمره.. كما كان ضوء شعره موزعاً بين رموز الوطن ومناضليه وشهدائه.. حتى أنه دوّن مذكرات (عامل منفي) بقصيدة شجاعة لم أزل أحفظ الكثير من ابياتها، فقال في صمود العامل: (صنطه بالبنكة يتمرجح)، وكريم نفسه الذي كتب للأم والأب والأخ والأخت والجار، والصديق، ولم يترك أحداً في مسيرته الشعرية والغنائية، إلا وأضاء حوله شمعة كبيرة تشع حروفها شعراً وابداعاً فتضيء كل الأسماء معها.. ألم يجعل من وفاء أمه، ووفاء أمهاتنا، أغنية على شفة الفنان سعدون جابر، بل وعلى شفاه كل الأبناء؟ فلماذا نجحد اليوم عطاءه، ونبخس حق الـ(كريم)، عمداً مع سبق الإصرار ؟!

كريم الذي لم ينس أحداً، فكتب للصغار والكبار، بل وكتب حتى لذلك البلبل الصغير، بينما ننساه في اربعينيته!.. ولولا مبادرة نادي الصيد التي حفظت ماء وجوهنا.. لباتت فضيحتنا بجلاجل !
وللأمانة، فقد اختار اتحاد الشبيبة الديمقراطي، الشاعر كريم العراقي، ليكون شخصية المهرجان الذي كان مقرراً اقامته هذه الأيام احتفالاً بالذكرى السبعين لتأسيسه، لكن الاتحاد أجل المهرجان تضامناً مع شعب غزة الصامد ..

وباستثناء مبادرة نادي الصيد، واتحاد الشبيبة العراقي (الشيوعي)، فقد نساه الجميع للأسف، فلا ذلك (العامل المنفي) تذكره في اربعينية رحيله، ولا تلك (الخياطة) تذكرته، فاضاءت شمعة في ليلة اربعينيته، ولا (أم الظفيرة) ذرفت دمعة حزن ووفاء لذكرى ذلك الفتى الناحل، الذي كان يقف مبتلاً تحت المطر كالعصفور، ينتظر خروجها من المدرسة غير آبه بالمطر والبرد، فيهتز قلبه مع ظفيرتها .. واكثر من ذلك أنه أهدى لها أول دواوينه الشعرية، وأسماه (للمطر وأم الظفيرة) !!. لقد مرت اربعينية كريم أمس ولم تتذكره اتحاداتنا ولا جمعياتنا، ولا روابطنا ولا منتدياتنا الشعرية والفنية والاجتماعية، ولا مقاهينا رغم عددها الكبير.. ناهيك من مؤسسات الدولة التي صمتت صمت أبي الهول!. فلا وزارة التربية التي كان كريم معلماً في مدارسها، ولا وزارة الثقافة التي كان كريم موظفاً نشيطاً في دائرة فنون موسيقاها، ولا شبكة الاعلام العراقية الممتلئة مكتبتها الغنائية بنصوص اغنياته، تذكرته،

ولا اتحاد الادباء الذي كان كريم العراقي أحد اعضائه ولا أحد من هذا (الأحد) مرّ على مرقده في النجف صبيحة اربعينيته ليضع وردة على قبره، ويقرأ عند رأسه سورة الحب والشكر والامتنان. واستثني من ذلك أسرته وبعضاً من أصدقائه القريبين جداً .. وطبعاً فأنا لا أعتب على الحكومة فهي (مشغولة)، ولا على أعضاء البرلمان، فهم (مشغولون أيضاً) ولا أعتب على (حكومة) محافظة بغداد المحلية، ولا على مؤسسات مدينة بغداد، المدينة التي أحبها كريم، وكتب لها بالحان وأداء كاظم الساهر : (لو صمتت قلبي يسمعها) وغيرها من الروائع.. نعم لا أعتب على هؤلاء لأنهم جميعاً (مشغولون)، لكني أعتب فقط على مدينته التي نما وترعرع في احضانها، وكبر في كنفها، وأحبها حين كانت تحمل اسم (مدينة الثورة)، وأحبها حين حملت اسم (مدينة الصدر) .. نعم

أعتب على هذه المدينة، بكل دوائرها الحكومية، ومنتدياتها الثقافية، ونواديها الرياضية، ومدارسها، واسواقها، وشوارعها، وحدائقها ، وأناسها الذين أحبهم كريم وأحبوه جداً.. وفي الوقت ذاته اسأل المدينة وأقول: لماذا يستذكر مثلاً نادي الصيد، الذي لم يكن كريم عضواً فيه، بل وربما لم يزره في حياته، بينما تنساه مدينته التي امتلأت رئتاه بهوائها، واكتحلت عيناه بضوئها، وتشبعت روحه و مسامات قلبه باريج حبها، ولا أعرف ماذا سيضر دوائر هذه المدينة ومؤسساتها ومنتدياتها لو أقامت حفلاً تأبينياً في اربعينيته، ودعت اليه نجوم الابداع الوطني والعربي، ومن لا يحضر في تإبين كريم العراقي ؟!

وماذا سيكلف مديريات تربية (مدينة الصدر) لو استبدلت اسم مدرسة (الجبل الأخضر) التي كان كريم معلماً فيها باسم مدرسة (كريم العراقي)، اللهم إلا إذا ظن المسؤولون في (التربية)، أن اسم (الجبل الأخضر)، أكثر (بركة)، وشعبية من اسم كريم العراقي ؟!

وطبعاً فأنا لا أريد أكثر من هذا، ولن أطمع، أو أفكر بنصب تمثال لكريم في مدينة الثورة، ولا أطالب باطلاق اسمه على احد شوارع هذه المدينة، لأني اعرف أن تحقيق مثل هذا الطلب، أمر صعب إن لم يكن مستحيلا. في هذه الأيام، لكني لن اتوقف أبداً عن المطالبة كلما أتيحت

لي الفرصة، لأن الكثير من الناس لا يعرفون درجة الحب بين مدينة الثورة، وابنها البار كريم العراقي ..

وسأكشف سراً عن أمنية كريم التي أباح لي بها في آخر لقاء جمعني به، حين سألني قائلاً: هل تظن يافالح أني سأشفى يوماً من هذا المرض الخبيث؟

قلت: نعم، فأنا واثق أنك ستدحر المرض وتنهض معافىً.. ولكن قل لي ماذا تفعل لو غادرت المشفى؟

قال: سنذهب أنا واياك الى (المدينة الأم)، فنزور بيتنا وبيتكم القديمين، وبيوت الأصدقاء التي كنا نزورها، ثم نمضي الى قطاعات مدينتنا قطاعاً قطاعاً، ونشم عطر حنينها وحدائقها، وألفة اسواقها وصخب مقاهيها، وكل ذرة فيها .. لكني أشك أن هذا سيحصل يا فالح !).. ثم سقطت منه دمعة، سقط قلبي حزناً وخوفاً لها، وأدركت في الحال أني لن التقي بكريم مرة ثانية أبداً، فقد أنبأتني دمعته بما سيحدث ..!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط