بلاويكم نيوز

القضاء اول قلاع الدولة وآخرها

0

بقلم : سعد الأوسي ..

في سنوات اغترابي السبع العجاف، حين اضطررت الى الرحيل بعيدا وفارقت الوطن والقلب والاهل والذكريات.
يومها كانت الدماء فوضى والسياسة عهراً والبرلمان اكذوبةً وعجزاً والقضاء حائرا بين ضميره المهني وسيف الشبهات المصلت على رأسه و قلّة حيلته وهوانه على اصحاب السطوة والقوة الملطخة ايديهم بكل اوساخ الارض وحقارتها، كان فساد الحكومات هويةً وعقيدة راسخة في صميم كينونتها، من اصغر ساع او فراش في اقصى دائرة مدنية و صولاً الى اكبر المعالي والسيادات والدول، كلٌّ حسب حجمه و قدرته وجشعه على النهب والرشوة والعمولات الشيطانية.
وكنت ومثلي عشرات الاصوات الحرة من اهل القلم والفكر نصرخ ونستصرخ ونكتب ونهمس في اذن القضاء العراقي وقتها كي ينهض من سباته وينفض عنه قيود السياسة العفنة وعثرات ادارته وارتباكه الحائر بين الواجب والواقع المثقل بالرعب والموت المجاني، الذي طال العديد من رجال القضاء الاطهار لانهم رفضوا ان يكونوا حلقة في سلسلة الدم و البطش والظلام، بينما انصاع آخرون مقهورين مرغمين على تقيّة قول نعم نجاةً بالنفس والاهل من التهلكة.
ودون سواي من اهل القلم والفكر والاعلام كنت احظى بحصة عشرة اسود من القضايا الباطلة وتهم الكيد والزور و بهتان المخبر السري الذي طارت بسبب قذارته رؤوس بريئة كثيرة لاريب ان لها وقفةً عظيمةً امام الله طلباً لحقها في القصاص من الظالمين السفلة اولئك.
و قد بلغت الاحكام الغيابية ضدي بسبب ذلك اطناناً من السنوات والعقوبات والغرامات .
ورغم همّ الغربة الذي كنت فيه لم اعبأ ولم احمل همّاً او خوفا من الاخبار التي كانت تصلني تباعا عن حكم تلو حكم وقضية اثر قضية، لانني كنت موقنا اشد اليقين ان الله هو الحق و مع الحق وناصر الحق وسيحق الحق ولو بعد حين.
في عام 2017 ، حيث كنت ما ازال في العاصمة التركية انقرة اتصل بي احد الاصدقاء من كبار اهل السياسة والمسؤولية -استدرك- من شرفاء اهل السياسة والمسؤولية وهم نزر قليلون كما تعلمون، و كان من ذوي الود الصادق والمحبة والاخاء بحق،
قال لي في معرض احاديثنا المتشعبة:
-اعتقد انك ستعود للوطن عن قريب، اكيد ملّيت من الغربة ؟
بين الضحكة والدهشة والفرحة اليائسة سألته:
-و قضايا زهير الغرباوي(1) الملعون واشباهه، اين سأذهب بها ؟؟؟؟
قال: صدر اليوم الامر بتعيين القاضي فائق زيدان رئيساً لمجلس القضاء الاعلى، وهو رجل حازم محترم رصين وقاض عادل، نعتقد انه سيصلح شؤون القضاء في البلد ويحميه من الضغوط والتأثيرات وسطوات مراكز القوى، ويعيد له استقلالبته وهيبته.
قلت: تلك مهمة مستحيلة او شبه مستحيلة في ظل هذه الفوضى السياسية والانفلات الامني و سلطة السلاح الحاكمة بامرها.
قال: لن اطيل عليك، انتظر و راقب وسترى، وفي اثناء ذلك ابدأ بتصفية امورك وشدّ رحالك عائدا للوطن الذي تحبه ويحبك.
كانت تلك المكالمة السحرية بريق ضوء دافق اعاد لي شباب الروح التي شابت من شدة الحنين الى العراق.
قررت بعدها ان ابدأ بالبحث والاستقصاء عن القاضي فائق زيدان من محبيه ومبغضيه رغم ايماني بحصافة نظرة صديقي السياسي ودقّتها، ولكن ليطمئن قلبي.
كانت سيرة هذا الرجل ناصعة بشهادة كلّ ما قرأت وعرفت وسمعت عنه، قال لي احد زملائه الذي رافقه منذ كان طالبا في كلية الحقوق حتى تخرجهما من المعهد القضائي وتعيينهما كقضاة تحقيق : كان الاستاذ فائق متفوقا علينا جميعا في كلية القانون، وكنا نحرص ان ندرس معه اوقات الامتحانات كي نضمن النجاح لانه الاكثر ذكاءً ونباهةً ومتابعةً وكان اساتذتنا جميعا يقدرونه لتفوقه و يحبونه لدماثة اخلاقه.
احسست بمدى صدق هذه الشهادة بحق الرجل كونها صادرة من قاض محترم زامله فترة الدراسة و العمل سنوات عديدة.
وهي شهادة بعيدة عن الشبهات ودليلها ان هذا الزميل استقال من القضاء منذ اكثر من 15 سنة وعمل في المحاماة كونه ينتسب الى عائلة احد المسؤولين في النظام السابق.
وعلى مدى سبع سنوات تابعت عن كثب خطوات القاضي العادل الاستاذ فائق زيدان في ادارة دفة المجلس الاعلى للقضاء بعد ان كنت ومعي ملايين العراقيين شبه يائسين من امل او ضوء في ظلام الفوضى والفساد الذي غلّ يد القانون و اوهن قدرته الى حد كبير لسنوات طويلة.
كنا نعتقد بيقين ان الفساد الحكومي والبرلماني السائد وقتها لن يصلحه الا صلاح قضائي قانوني كفيل بإعادة البلد الى رشده والحياة الى نصابها، ولكن المهمة بالغة الصعوبة والطريق شائك جدا، وما عسى ان يفعله عزم رجل واحد فحسب في هذا الركام الكثير !!!؟؟؟.
لكن الايام والشهور والسنوات من العمل الشاق الصبور الهادئ كان لها قول آخر، حيث عاد القضاء ليفرض سلطة القانون و يحمي الامن و ينظم الحياة على وفق ميزان شديد الدقة والعدالة و بادارة حازمة صارمة استطاعت ان تنأى بهذه السلطة (المقدّسة) عن الفساد و سطوة اهل القوة والسلطة، وبدون املاءات داخلية او خارجية، و ذلك اقصى ما يُرجى و يُتمنى لسيادة القانون في كل بقاع الدنيا.
عندما قررت العودة الى الوطن، الحبيب الذي فارقته مكرها غير آمن، ملاحقاً اترقّب كيد الكائدين ومكر الفاسدين.
كان لابد ان اقف اول شئٍ امام المحاكم التي اصدرت احكامها الغيابية ضدي لاعادتها كما ينص على ذلك القانون.
وقد كلفت حينها احد الاصدقاء المشتركين بايصال رسالة صغيرة الى السيد رئيس مجلس القضاء الاعلى فحواها انني لا اطمع الا بالحق والعدل وعدم تدخل وسطوة الايدي المتجبرة في القضايا المرفوعة ضدي، وانا على يقين ان القضاء سينصفني بعدله وحياديته و مهنيته.
و سرعان ما جاءني جوابه : اطمئن فالقضاء عادل معك ومع غيرك من العراقيين، وقد ولّى زمن الكيد والتجبر والتأثير والسطوة الجائرة، و ان ترى خير من ان تسمع.
عندما وقفت امام قاضي الجنايات في اول اعادة محاكمة، نظر لي من وراء زجاجة نظارته مليّاً، ثم سألني : من يقف وراءك ؟
توريةً عن (من يقف الى جانبك ويمنحك هذه الشجاعة كي تعود من الخارج لتواجه كل هذه التهم)؟؟
قلت له: الله الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد
قال: و نعمَ بالله، كلنا متكلون على عدله ورحمته، ولكني اعني من هو واسطتك ؟
قلت له: سأقول لجنابك ولكن شرط ان تغلق الباب حفاظاً على السرية.
ابتسم وقال: اغلقوا له الباب
قلت هامساً : ورائي وامامي ومن فوقي ومن تحتي رحمة الله ووعده الحق بنصرة المظلوم على الظالم وثقتي بنزاهة القضاء العراقي بعد ان عاد الى قوته واستقلاله وهيبة حضوره.
قال: عمي انتو من يگدرلكم اهل الصحافة والاعلام !!؟؟؟
تساقطت الأحكام الغيابية الجائرة والتهم الكيدية الكاذبة وافتراءات المخبر السري اللعين عني واحدة بعد الاخرى ومحاكمة بعد محاكمة وخرجت منها اكثر اصرارا وقوة على قول كلمة الحق، وفضح الفساد والمفسدين والدفاع عن حق المظلومين متكئاً على الامن والامان الذي كفله لنا الدستور والقانون في ظل قضاء عراقي عادل نزيه بقيادة الرجل الحق العادل النزيه فائق زيدان الذي صرت احرص ما اكون على صداقته والقرب منه.
ثم تعددت اللقاءات الدورية بيني وبينه، مسلّما وزائراً مرةً، ومستفسراً متسائلاً مرة اخرى، ومستنجداً مستعيناً على فك كربة مظلوم وانصاف مغبون مرات عديدة، والرجل في كل ذلك بكامل تواضعه و طيبته ورفعة اخلاقه وحصافة نظرته وعدالة احكامه والتزامه بالقانون.
وفي آخر زيارة له بمكتبه قبل ايام، قلت له ممازحاً: يبدو ان القضاء العراقي صاحب شارة ويعوّر كل من يفتري عليه او يضاده، والشواهد على ذلك كثيرة.
ابتسم بهدوئه المعهود وقال: مهنتنا هي احقاق الحق و دحض الباطل، افلا ينصرنا الله على القوم الظالمين ؟؟؟
قلت : كل الذين حاولوا الإساءة للقضاء او تشويه وفبركة الاخبار ضدكم كانت نهايتهم وفضيحتهم مأساوية
قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق.
قلت: ربما هذه هي المرة الاولى منذ عقدين من الزمان يصبح فيها القضاء ملاذا آمناً للاقلام والاصوات الحرة في الاعلام وهو مايفسر التقارب الواضح بين اغلب اهل القلم والفكر والاعلام والثقافة مع مجلسكم الموقر.
قال: من واجب القضاء ان يكون حاميا للدستور والقانون، وكلاهما يكفلان حرية الرأي و الاعلام. هذا غير مسؤوليتنا الاهم في حفظ التوازنات وتوفير صمام امان للحراك السياسي الغارق في صراعاته مع الاسف .
قلت: لن اجاملك ولكن لابد من الاعتراف ان الامن والامان والاستقرار الذي يعيشه العراقيون اليوم هو بعض نتاج عودة السلطة القضائية الى سيادتها وقوتها وتنظيمها، وان العملية السياسية على كثرة تناقضاتها وصراعاتها مدينة للقضاء بانه كفل امانها وحمى توازناتها و كان الحكم الفصل في صراعاتها وتبايناتها.
وان الاعلام العراقي كذلك يعيش عصره الذهبي في ظل حمايتكم لحريته وفتح اوسع المديات امامه ليقول ويعارض وينتقد ويكشف ويفضح مواطن الفساد، آمناً مطمئناً غير خائف من زوار الفجر او معتقلات الظلام. اعتقد اننا ذاهبون نحو تقاليد مجتمع مدني حقيقي لا سلطة فيه الا للقانون و الحق، مع وجوب الاعتراف ان للقاضي العادل فائق زيدان الفضل الاكبر فيما نحن فيه وفيما سنكون عليه باذن الله.

*الحاق / وانا اكتب مقالي هذا شاهدت في مقاطع فيديو عديدة الاخبار المؤلمة لاحداث اليوم وكيف تصدت قوات مكافحة الشغب بعدوانية و تجبر واعتداء اثيم على ابنائنا وبناتنا من خريجي المجموعة الطبية (اطباء وصيادلة واطباء اسنان) بسبب تظاهرهم مطالبين بحقهم في العمل والتعيين، ثم الاعتقالات الجائرة التي تمت بحقهم، ثم التصدي الشجاع العادل للسيد رئيس مجلس القضاء الاعلى وامره بالافراج الفوري عنهم، كأعظم اشارة لجميع السلطات ان السيادة للقانون والدستور وان القضاء لن يسمح بعودة اي شكل من اشكال الدكتاتورية والقمع ومصادرة الرأي الاخر والاعتداء على حقوق المواطنين، وانه ليس من سلطة مطلقة منفلتة تحكم بامرها ومشيئتها فحسب بعد الان.
الا يستحق هذا الرجل العادل ان نقول له : سلمت يداك وطال عمرك وتبارك حضورك لانك حفظت اول قلاع الدولة وآخرها من ان تستباح وتسقط !!؟؟؟


(1) زهير الغرباوي كائن طحلبي منقرض وصل في فوضى الحكم التي عمت البلد بعد الاحتلال الى منصب رئيس جهاز المخابرات، وهو مطيرچي مشهور، وصل به الامر الى عمل برج طيور داخل جهاز المخابرات وتخصيص ضابط برتبة رائد لمتابعة الطيور وشراء الدخن ومزاوجتهن والهتاف لهن بكش عاع عند الطيران
لا حول ولا قوة الا بالله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط