المقالات

بخت السيد شمران وقصيدتي في المهرجان!

بقلم : فالح حسون الدراجي ..

أقام مركز ( شمران الياسري ) الثقافي يوم الجمعة الماضي، مهرجاناً ثقافياً، سياسياً، شعبياً كبيراً، استذكر فيه أحد أهم رموز الثقافة الوطنية والنضالية العراقية، وأقصد به الكاتب الفذّ شمران الياسري.. ولعل الشيء الملفت ( شكلاً ) في هذا المهرجان، أن قاعة جمعية المهندسين العراقية في بغداد التي احتضنت هذا الاستذكار، قد ازدانت بصور وأعلام وألوان وأزياء وطوائف عراقية وعربية مختلفة، فرسمت بشكل مباشر ملامح شخصية أبي گاطع، وعرضت بشكل صادق تضاريس تجربته الثقافية والسياسية والشعبية..

كما أعطت صورة واضحة لمن لا يعرف هوية هذا الفلاح الذي أرعب بصوته أشرس سلطة استبدادية عرفها العراق والمنطقة، وأقضّ عليها مضجعها الناعم والوفير !

وإذا كان هذا المهرجان -الفريد من نوعه عراقياً – قد حقق نجاحاً كبيراً بحيث تعجز عن تحقيقه أكبر الوزارات العراقية، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب أهمها: أن أصحاب فكرة المهرجان والقائمين عليه كانوا من ( أهل البيت وحبايبهم)، وهذا يجعلهم أكثر حرصاً من غيرهم على نجاحه.. وهي حقيقة يجب الإقرار بها.. نعم فقد اشتغل أبناء وأحفاد وأخوة وعمومة شمران الياسري بأنفسهم على المهرجان، ولم يوكلوا المهمة لأحد رغم الجهود الطيبة التي بذلها الزملاء والأخوة في مركز شمران الياسري من أجل نجاحه.. لذلك وجدنا شخصاً مرموقاً في الدولة العراقية مثل الأستاذ إحسان الياسري – نجل الراحل شمران – يمسح بيده منصة الحفل من الغبار، أو يحمل أقداح الماء إلى المدعوين.. ولم يكن عيباً قط أن تجد موظفاً بارزاً في رئاسة الوزراء مثل علي جاسم الياسري -ابن أخ شمران – يقوم بتقديم الطعام بنفسه إلى المشاركين، وتجد ياسر فائز شمران يقوم بخدمة كل من يحتاج الخدمة من ضيوف مهرجان جده بتواضع جمّ، ناهيك من الحضور البهيّ لكبار العائلة أمثال النائب السابق رشيد الياسري – أبو أحمد – وغيره من شخصيات الأسرة الذين اشتغلوا بصمت وهدوء على تهيئة وإعداد ونجاح هذا المهرجان الكبير..

أما السبب الثاني لنجاح المهرجان برأيي، هو عدم اعتماده على الدولة سواء من ناحية التمويل، أو مكان وقاعة المهرجان، أو الدعاية والإعلان، او حتى التغطية، رغم دعم رئيس الوزراء ووزارة الثقافة للمهرجان، وقد تجلى ذلك بحضور الشاعر عارف الساعدي مستشار رئيس الوزراء والمسؤول البارز في وزارة الثقافة، رغم أني أجزم أن الشاعر الساعدي كان سيحضر هذا المهرجان أيضاً حتى لو كان (عرضحالچي) وليس مستشاراً لرئيس الوزراء، فالرجل ينتمي لعالم شمران الياسري الثقافي والوطني والقيمي والإبداعي والاجتماعي ..

وحول تمويل المهرجان، فإن إحسان – وهو سرّ أبيه – لم يترك الموضوع يمر مرور الكرام، فقال في كلمته بالمهرجان:

( نشكر دولة الرئيس على دعمه للمهرجان، ولو آني عود چمّلت من جيبي) !!

ثمة سبب مهم جداً لنجاح المهرجان، وهو المتعلق بشخصية شمران الياسري ذاتها.. فالرجل كان يشتغل في عدة ميادين، ويبدع فيها جميعاً، فهو مثلا، علم في الصحافة وفي رأسه نار، بل وفي قلمه نار أيضاً لم يرحم الطغاة والقتلة والخونة قط .. لذلك حضر عدد كبير من فرسان الصحافة العراقية لحفل مهرجانه وفي مقدمتهم الدكتور كاظم المقدادي..

ولأنه علم عالٍ وخفاق في الرواية الشعبية، بل هو مؤسس الرواية (الريفية) التي غاص في أعماقها وأخرج لنا لؤلؤ ( الرباعية)، فقد حضر عدد من الروائيين والنقاد من بينهم الناقد شجاع العاني والناقد علي حداد والأستاذ علي الأمارة والروائي جمال العتابي وغيرهم من كبار الكتاب والمثقفين العراقيين..

ولما كان أبو گاطع مناضلاً وطنياً بارزاً في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، ومثالاً ساطعاً للفروسية والتصدي لعصابة البعث.. فقد كان من الطبيعي ان يحضر مهرجانه، المناضل رائد فهمي سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، وعدد غير قليل من اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية وجمهور من قواعد ومؤيدي الحزب ..
وبما أن شمران الياسري ( عابر للقارات) كما يقال في الإصطلاح السياسي، فقد تسابق على الحضور لمهرجانه، عراقيون ينتمون لأطياف ومذاهب وأديان شتى، فقد حضر مسلمون من المذهبين، ومندائيون يتقدمهم ( الريشما ) ستار جبار الحلو رئيس ديانة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، وحضر أخوة مسيحيون، بعضهم من الداخل والبعض الآخر جاء من خارج العراق مثل الطبيب فايق جمو وغيره.

وطبعاً أنا تحدثت لكم عن العراقيين، ولم أتحدث عن حضور ومشاركة عدد من المثقفين المغاربة الذين عطروا فقرات المهرجان، بأريج عطائهم وفيض إبداعهم الشعري والنقدي الأدبي الرصين..

إن هذه الأسباب كافية لأن تجعل هذا المهرجان ناجحاً، فما بالك لو علمت أن ( اللجنة الشمرانية ) التي أشرفت وعملت على إعداده اشتغلت بالتشاور مع الأستاذ مفيد الجزائري رئيس تحرير جريدة طريق الشعب سنة كاملة، لذلك كانت المحاور مدروسة بعناية، والمواد المقدمة ذات قيمة كبيرة.. كما كان التنظيم مضبوطاً، فضلاً عن الدقة اللا متناهية في السيطرة على التوقيتات لكل فعالية وكل مشاركة محددة من قبل ادارة المهرجان مسبقاً.. وهو لعمري أمر عجزت عنه أكبر المهرجانات الرسمية، والفعاليات الثقافية في العراق والدول العربية..

لايفوتني أن أشير إلى أني أعجبت جداً بكل فقرات المهرجان، لاسيما كلمة الشاعر عمر السراي التي كانت أشبه بقصيدة خضراء.. وبما قدمه أيضاً الكبيران ناظم الحاشي وماجد السفاح، إذ تمكنا من حملنا بجناحيهما من قاعة المهندسين إلى بساتين وبراري وبيوت قضاء الحيّ خصوصاً، ودواوين الكوت عموماً ..

ختاماً أودّ أن أشير إلى نقطتين مهمتين: الأولى تتمثل بالشعور العام الذي انتابنا جميعاً في القاعة والمتمثل بوجود أبو گاطع معنا في قاعة المهرجان.. نعم لقد كان حاضراً معنا بغليونه وألقه وقهقهته وصراحته وبهائه

أما النقطة الثانية فتتعلق بي شخصياً، إذ ربما لايعرف الكثير من الاخوة بأنني أحد الأربعة أو الخمسة المؤسسين لمركز شمران الثقافي وتحديداً العام 2014، بصحبة الاستاذ احسان الياسري، وقد تشرفت بدخول بيت الراحل شمران مرات ومرات، بل وأكلت وشربت فيه منذ أكثر من نصف قرن، وأن للراحل فضلاً كبيراً عليّ.. لذلك حين تم اختياري للمشاركة وإلقاء القصيدة الوحيدة في المهرجان، كان عليّ كتابة قصيدة بمستوى هذه العلاقة، لكنها – أي القصيدة -استعصت عليّ تماماً حدّ ليلة المهرجان، فشعرت بحرج شديد، وحزن كبير، إذ ماذا سأقول، وبماذا سأعتذر ؟!

فوقفت وسط غرفتي وصحت بصوت عال: وين بخت السيد ابو جبران ويجيني الشعر.. وأخلص من هذي المشكلة!!

فجأة وأنا نائم نهضت فجراً وقبل ساعات قليلة من بدء المهرجان على وهج الشعر وهو يضيء في رأسي، بل وينهمر كالمطر في مخيلتي .. يا الهي لقد جاءت القصيدة، كتبتها، وذهبت إلى القاعة منتشياً .. فحمدت الله وشكرت ( بخت السيد) !!

وأقسم لكم أن هذا الأمر قد حصل فعلاً رغم أني من الصنف الذي لايؤمن بمثل هذه (الهدايا) ، بل ولا يطلبها حتى !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى