[ في تفسير الوجود ] — الحلقة الثانية — 《 الوجود هو الكتاب 》
بقلم : حسن المياح ..
من أجل تبسيط الفكرة للفهم ، نأتي بمثل مألوف محسوس ملموس ، لننزل من أعالي وقمم التجريد وما فيه من مسائل ومطالب معقدة عسيرة الفهم ، وما يغيب عن الحس والمشاهدة ، الى عالم الحس واللمس والمشاهدة ، من أجل أن نهضم الفكرة الصعبة هضمآ كاملآ تامآ ، ليسهل إزدرادها وبلعها ، وتمثلها في داخل المعدة ، وما يجري عليها من إفرازات وتفاعلات وإمتصاصات وإذابات ….. وعليه نقول تشبيهآ وتسهيلآ وتبسيطآ أن《 الوجود هو مثل الكتاب 》…… ؟؟؟ !!!
والكتاب مخلوق لخالق ، ومصنوع لصانع ، ومكتوب لكاتب ، وأنه معلول لعلة ، ومسبب لسبب . وهو ممكن أن يكون ( بمعنى أن يكتب ويؤلف ) ، وممكن أن لا يكتب ، فلا يكون ، فيتساوى فيه الوجود كينونة ، والعدم لا شيء كينونة ، وهو واحدة منها ، بمعنى أن يكون كتابآ ، أو لا يكون ، وبتوضيح أكثر ، بمعنى أن نكتبه ونظهره للعلن ويكون شيئآ ما ، وممكن أن لا نكتبه ، فلا يكون شيئآ . والكاتب للكتاب ( مؤلفه ) هو يمثل مثالآ حسيآ من أجل الفهم البشري القاصر المحدود《 الحقيقة الإلهية 》 ، والكتاب هو يمثل كلا الحقيقتين ، الحقيقة الكونية بما هي كتاب وما فيه من غزارة معلومات ( وجودات ) . والحقيقة الإنسانية بما هي الإنسان وما له وما عليه ، وما يجب أن يكونه . والكتاب لما كتب ، نحن لم نشهد كتابته ؛ وإنما الذي حصلنا بالحس والمشاهدة هو الكتاب وحده ، وأما كاتبه ، فلم نشهده ، ولم تتسنى لنا الفرصة لمشاهدته عيانآ حسيآ ملموسآ ، ولكن الكتاب هو الدليل والمرشد الى حقيقة وجوده ، وإن لم نره ونشاهده ، ومهما بلغنا من صرف الجهد من أجل أن نشاهده ، ونحسه لمسآ ، ونواجهه نظرة عين حس مباشرة ، لا نقدر على ذلك ، لغيابه عنها حضور مشاهدة ، ولكننا نؤمن بوجوده من خلال ما تركه لنا من أثر كتابة وتأليف ، وهو الكتاب ، وبذا يكون الدليل على وجوده هو من خلال أثره الذي تركه لنا ، لننعم منه ونحصل ونكسب من فوائد ومنافع ….. وعليه يكون ( الكاتب ) وجوده واجب الوجود بالذات ، ولم يكن غيره هو الذي ترك لنا الكتاب ، والكتاب لا بد له من كاتب واحد ، ونحن يمكن أن ندرك أنه واحد أحد لا غير ، من خلال إسلوب كتابة الأثر ( الكتاب ) ….. والكتابة بالنسبة للكاتب هو خلق وصنع ، والكاتب هو الخالق والصانع ، وتلك هي《 الحقيقة الإلهية 》التي عنها نتحدث ونبحث …..؟؟؟ !!!
وغياب الكاتب وإنفصاله عن كتابه وجود مباشرة حسية ، لا يعني أن الكاتب — لما غاب وإنفصل —أنه لا يعلم ما في كتابه من فيض كتابة ، وأنه لا يحيط بكل ما كتب من جزئياته ، ودقائقه ، وكلياته ، وتفاصليه ……ّ ؛ وإنما نفسر غيابه وإنفصاله ، هو مجرد إنتهاء فترة كتابة الكتاب ، بإستمرار حفظ ، وديمومة رعاية ، وزواصلة تدبر …. * ولله في خلقه شؤون * ، * يسأله من في السموات والأرض ، كل يوم هو في شأن * …… وتبقى كل هذه الشؤون في حفظه ، وتحت رعايته ……
فالكتابة — التي هي مادة الكتاب والتي منها تكون ووجد الكتاب ( إنها تعني الوجود الشامل للحقيقة الكونية والحقيقة الإنسانية ، كما ذكرنا في الحلقة الأولى ) — هي الخلق والصنع ، فلا بد إذن من خالق وصانع حتى يخلق ويصنع ، وإلا فمن أين توفرنا على الكتاب وجود شيء محسوس وملموس من دون أن يكون هناك خالقآ وصانعآ ، وكاتبآ للكتاب ومؤلفآ له …. ؟؟؟
ومن خلال الكتابة ( التي هي عملية الخلق والصنع التي أنتجت أثرآ هو الكتاب ) نستطيع أن نفهم وندرك معرفة وإدراكآ عن حقيقة كنه خالق الكتاب وصانعه وكاتبه ومؤلفه ( يعني عن الحقيقة الإلهية ) ، ويمكن أن نتوفر ونطلع على أشياء تخص الكاتب ( الحقيقة الإلهية ) من خلال مميزات ما في الكتاب من وجود معلومات وتوضيحات ، وسرد أسماء وأوصاف وحوادث وأفعال ، وما الى ذلك ما في الكتاب التي تدلل ، وتشير ، وتوصف ، وتمس ، وتلامس ، وتعنون ، على شخصية الكاتب — بما له من صفات وأسماء ، وما قام به من أفعال — وحقيقة وجوده …… * ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ، * ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ، وسخر الشمس والقمر ، ……. ليقولن الله * . وخير كتاب عظيم جبار كريم خلقه ( الله ، الحقيقة الإلهية ) الذي يبين ويوضح الحكمة في خلق الوجود ، هو القرآن الكريم ، الذي من خلاله كأثر مخلوق مكتوب مدون محفوظ ، يتحدث لنا عن الحقيقة الإلهية ، والحقيقتين الكبريين المخلوقتين * الحقيقة الكونية والحقيقة الإنسانية * ، ويبين لنا إرتباطاتهما فيما بينهما ، وفيما بينهما وبين الحقيقة الإلهية التي خلقتهما وصنعتهما وأوجدتهما ، حقيقة واقعية محسوسة ملموسة مشهودة ، ويتحدث لنا عن طريقة التعامل معهما ومعها بالحواس والجوارج ……
وعملية الخلق تكون مباشرة في حالة الصنع ، وتكون حفظآ ورعاية في حالة الإستمرار والدوام والبقاء ، بمعنى أن الخالق ( الحقيقة الإلهية ) يمارس الخلق بنفسه إيجادآ ، وهو الحافظ والراعي والمدبر من بعيد كسبب أعمق مفيض ، أي أنه مسبب الأسباب القريبة والمباشرة ، وعلة العلل المسببة المكونة ، كما هو الحال في خلق الكتاب ، وهطول الأمطار ، حيث أن الله سبحانه وتعالى هو مسبب أسباب تكوين وإيجاد وحدوث المطر القريبة والمباشرة والمحسوسة والمشاهدة ، وهو المدبر الأساس لها ، وأن الأسباب القريبة هي أسباب مباشرة ، من غيوم تتصاعد وتتكاثف وتجتمع ، وتثقل وزنآ ونوعآ ، وتتحول من بخار ، الى غيوم ، وتتحول الى حالة سائلة ، وتنزل غيثآ على شكل مطر …… فالمحسوس المشاهد هو المطر ، وما له من أسباب طبيعية هي مكوناته وتحولاتها ، وهذه ترى بالعين الباصرة التي ترى وتشاهد ، وأما السبب الأساس الأعمق البعيد للمطر ، هو الله سبحانه وتعالى ، الذي يخلق المادة التي يتكون منها المطر ، وهو الماء ، ويأمره أن يجري وفق الأسباب الطبيعية المباشرة ، وينزل على شكل مطر ……
ومثل الكتاب هذا ، هو مثل عام شامل يحكي كل ما هو حقيقة ومتعلق ، بالحقائق الثلاثة ….. وأنه يصلح أن يكون الدليل الراشد لكل ما نتحدث عنه ، ونذكره ، من كلام ، وأفكار ، ومفاهيم ……. حتى يسهل على القاريء أن يفهم ما نقول ، وما نتحدث ، طوال البحث ….. وليرجع القاريء وهو في حالة هدوء وتركيز وإنتباه ووعي وتفكير وتفكر وتأمل ، الى هذا المثال ، ويربط ما نقوله بهذا المثل الكتاب كبديل محسوس عما هو تجريد خالص لا تدركه الحواس والأبصار …..
حسن المياح – البصرة .