البطة التي قتلت الحلّاج وابن المقفع
بقلم: كاظم فنجان الحمامي ..
همس في إذني صديقي ذات يوم عندما رأى السيارة المظللة (البطة) التي تقتل الناس، قال لي: ساتقدم بشكوى قضائية ضد (البطة)، وضد الأحزاب المسلحة، التي صادرت حرياتنا، واستباحت حقوقنا في العيش الكريم.
فقلت له ألم تسمع بالقول القائل: على من تقرأ مزاميرك يا داوود ؟. ستتقدم بشكوى ضد كائنات متوحشة، وقلوب متحجرة، وعقول مشفرة، وضمائر معطوبة، ومشاعر مغيبة بأفيون العبودية السياسية، وتذكر دائما: أنك لن تجد هذه الأمراض الاجتماعية إلا عند الشعوب الخاضعة لبطش القوى المستبدة، أو عند الشعوب المتخلفة، فما بالك إذا التقى الظلم بالظلام، وغرقت البلاد والعباد في مستنقعات الذل والهوان. حينئذ لا ملجأ لنا، ولا منجى من هذه الكارثة إلا بمعجزة كونية. .
قلت له: أسأل نفسك يا صديقي: ما الذي سيضيفه عبد الله بن المقفع الى كتابه (كليلة ودمنة)، لو عاد ثانية الى الحياة ؟، كان (ابن المقفع) يخشى بطش الدولة العباسية الحاكمة في بغداد، فلجأ الى التورية في سرد حكاياته على ألسنة البهائم، والحوار بطريقة أدبية ممتعة، ظاهرها هزلي باطنها حكم ومواعظ سياسية، لكنهم اتهموه بالزندقة، فمات مقتولاً (بالبطة) وكان عمره ستة وثلاثون عاماً. .
ثم قلت له أسأل نفسك أيضاً: ماذا لو عاد ابو منصور الحلّاج ثانية إلى بغداد ؟، ليحدث الناس عن الحرية، وعن عدالة السماء بعباراته الصوفية، التي قال فيها: النقطة أصل كل خط، والخط كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. .
لكنهم اتهموه هو الآخر بالزندقة، فقتلته (البطة)، وصلبوه ثلاث مرات، ثم قطّعوه وأحرقوه في زمن المقتدر بالله العباسي . .
لقد أمست (البطة) آلهة تعبد من دون الله، وفصلاً جديداً من فصول مأساة هذا الشعب، وستخرج علينا عما قريب مع افراخها الصغار الذين كبروا الآن، ولا يسعنا في ختام مقالتنا سوى تكرار ما قاله أصحاب الكهف: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من امرنا رشدا. .