بلاويكم نيوز

حقوقنا السيادية في خور عبدالله / الجزء الأخير

0

بقلم: كاظم فنجان الحمامي ..

كانت سواحل خور عبدالله منطلقا لفرق المسح الهيدروغرافي، التي رسمت معالم المسالك الملاحية الأمينة منذ عام 1919. .
فرق تحملت أهوال البحر، ومزاجه المتقلب، وبيئته القاسية، وأخذت على عاتقها تحديد المسارات الصحيحة، التي تسلكها السفن في طريقها نحو أم قصر وخور الزبير. وتفننت في غرس فنارات الاسترشاد في أعماق الممرات الضيقة. ونجحت في تأثيث القنوات الضحلة بالعوامات والإشارات الملاحية. إبتداءً من خور الخفقة وانتهاءا بخور الثعالب، مرورا بخور عبدالله، وخور (وربة)، وخور (الشيطانة)، وخور (السقا)، و(خور بحرة)، وخور (حچام). وابدعت في نصب نقاط التثليث، وعلامات التسوية على سواحلنا. .
رجـال امتزج عرقهم بأطيان الشواطئ الخاوية. وذوت أعمارهم في غياهب الأغوار السحيقة. وتناثرت احلامهم فـوق الأمواج الصاخبة. وغاصت سيقانهم في الأوحال والرمال المتحركة. ومشوا حفاة الأقدام في المياه الضحلة. وخنقتهم رياح (الكوس) المشبعة برطوبة الخليج، ومزقت أجسادهم ملوحة البحر. لكنهم تحدوا الصعاب. وصمدوا بوجه الظروف القاهرة، وتركوا لنا سفرا خالداً، مفعما بالوفاء والعطاء ومعطراً بعبق رائحة البحر، ومنقوشا على مسطحاته المترامية الأطراف. .
كانوا يستخدمون الطرق البدائية في سبر الأعماق. ويستعينون بالأساليب التقليدية في الاستدلال على إحداثيات المواقع. ويهتدون بالحسابات الرياضية المضنية في حل المعضلات الهندسية. ومع ذلك نجحوا في مسح القيعان، وجالوا في أخاديد الأخوار. وكانت لهم الريادة في تشخيص ملامح سواحلنا. والتعرف على الممرات البحرية. ورصد تياراتها المائية. وتدوينها على خرائط كنتورية، مؤطرة بخطوط الطول والعرض. وموضحة بمقاييس الرسم. فتركوا لنا مكتبة عامرة بالخرائط والمخططات، والدراسات البحرية والنهرية. .
استقروا منذ بداية القرن الماضي في مدينة (الفاو). وانطلقوا من هناك في كل الاتجاهات المتاحة لهم. وارتبطوا فيما بعد بسلطة الموانئ العراقية. ورافقوا سفن الحفر المكلفة بتهذيب الممر الملاحي الوحيد في تلك الأخوار، وأزالوا الأطيان والترسبات الغرينية منها. وانيطت بهم مسؤولية مراقبة تردي الأعماق بفعل الترسبات الهائلة، التي منيت بها. .
واكبوا عمليات الحفر، وأسسوا قواعد الأبراج لفنارات التطابق، وحددوا خطوطها ومساراتها. وواظبوا على صيانتها. واختاروا مواقع الأرصفة المينائية. ونشروا مقاييس المد والجزر في الأماكن الحساسة. ووزعوا العوامات الملاحية على امتداد الممرات المخصصة للسفن. وشهدوا ولادة نهر (شط البصرة)، وربطوه بخور الزبير. ونفذوا مشاريع صيانة السواحل العراقية. ورصدوا مناسيب المياه في كل المواسم. وكان لهم قصب السبق في الإبداع والتميز، فنالوا أرفع الدرجات المهنية في تخصصهم. وشهد لهم العالم كله بحسن الاداء، ودقة البيانات، ورصانة المعلومات. .
رجال أفذاذ تعاقبوا على رئاسة الفرق الهيدروغرافيـة والهيدرولوجية. وطبعوا بصماتهم في ذاكرة الطين والماء. . مازالت آثارهم شاخصة في منعطفات خور عبدالله. آثار تحكي قصة الكفاح المرير في تعبيد الطرق البحرية فوق المسطحات الزرقاء. ومازالت صورهم شاخصة على الضفاف. .صور رائعة لقوافل المبدعين والمتميزين، اذكر منهم: المسّاح الأقدم مهدي موسى، ومحمد الحبوبي، وحسن محمود، وعبد المجيد محمد حسن، والكسندر فرجيبيان. ويوسف العامر. .
وتصاعدت وتيرة المسوحات البحرية على يد (فريد يوسف البسام). ذلك الرجل الحجازي القادم مـن قلب الصحراء العربية. فأضاف بخبرته المعهودة لمسات جديدة، أسهمت في توسيع آفاق المسوحات المائية، في خضم الكثافة المرورية، التي رافقت الحركة الملاحية شمال الخليج العربي. .
ثم جاء بعده (طالب جاسم محمد) ليكمل المسيرة بخطوات متصلة بجسور الماضي المزدهر. وتلاه (عيسى جاسب الطـوب). ثـم (عبد الرزاق جاسم). ومازن خريبط الخيون، ورافقهم شاب طموح، هو الكابتن سمير عبد علي مرزوق. .
كانت سفينتهم التي حملت اسم (الفاو) من أجمل السفن التخصصية. سفينة رشيقة البدن. أنيقة المظهر. مغزلية القوام. تنساب في إبحارها، وتتبختر في مناورتها. وكأنها يخت ملكي صغير يعوم في فردوس الرافدين، أو عروس سومرية أصيلة مزينة بـالأنوار البهيجة والصواري المتسامقة. تهابهـا السفن التجارية، وتغار منها النوارس والمراكب المحلية. فخصصت لها إدارة الموانئ العراقية رصيفا معزولا عن بقية السفن الخدمية، خوفا عليها من أن تصاب بخدش بسيط يشوه طلعتها البهية. ثم صارت رمزاً من رموز الطوابع البريدية في عدة إصدارات محلية. لكنها للأسف الشديد تنزوي الآن بين السفن المحطمة. وترقد بين الزوارق المهملة. على الرغم من ماضيها الحافل بالنشاط الملاحي. وعلى الرغم من احتفاظها بنكهة الأجداد والآباء ، الذين ساهموا في تدوين تاريخنا البحري. وأرى إنه ينبغي علينا التفكير بجد في إعادة تأهيلها، وتحويلها إلى متحف بحري عائم. يعيد إلى الأذهان تلك الصور الرائعة. .
ختاماً: كان هذا هو الجزء الاخير من الاجزاء العشرين التي تناولنا فيها حقوقنا السيادية في خور عبدالله. وسوف نواصل الكتابة عن حقوقنا المهدورة في شط العرب. . .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط