عندما يكون الخيّال (فيطي) .. تكون الفرس ( فيطية ) جداً !
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
أولاً وقبل كل شيء، أود أن أقول، إن كل من يظن بأن هذا المقال يقصده، فهو صادق في ظنه، فالمقال يقصده فعلاً. وكل من يرى أن المقال لا يقصده، فهو أيضاً صادق في رؤاه، فأنا لا أقصده أبداً.. إذن الرأي ليس لي، إنما لمن يقرؤه، فهو يعرف نفسه أكثر مني.
في الثقافة العسكرية ثمة عبارة يرددها المحترفون، مفادها: “الوحدة بآمرها”، وهذا يعني أن قوة الوحدة العسكرية أو ضعفها ،يعود لقوة أو ضعف آمر الوحدة وليس لأسباب أخرى.
وأنا شخصياً أتفق مع هذا الرأي، فقد رأيت في حياتي الكثير من وحدات الجيش وقد نجحت رغم إمكاناتها المحدودة، بفضل آمرها، والعكس صحيح أيضاً، وجيوش العرب خير مثال على ذلك، فقد خسرت مجتمعة بعدها وعديدها، أمام العدو الاسرائيلي، في اربع حروب رغم أن عدد جيش العدو- الأصلي مع الاحتياط- لا يصل الى عدد افراد جيش جيبوتي أو سلطنة عمان !
وسبب ذلك يعود الى أن الجيش الاسرائيلي يقوده قادة (وآمرون) محترفون، مثل الجنرال موشي ديان وشارون، والعازار، وباراك، وحاييم بارليف وغيرهم، بينما قادة جيوش العرب كانوا ضباطاً مغرورين، لا خبرة لديهم سوى تعمير (الحشيشة) ليلة الخميس واقامة الحفلات الماجنة في استراحاتهم الواسعة، والزواج سراً من الفنانات، ومن أبرز هؤلاء: المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة المصرية، لذلك كانت هزائمنا الأربع مهينة مذلة!
إذن، فالوحدة (بآمرها)، وبقائدها، وليست بحجمها وعدد ضباطها وجنودها!
وفي ميدان الفروسية ثمة عبارة: (الفرس بخيالها)، وهي عبارة تتردد كثيراً في المجتمع العراقي، حتى باتت مثلاً شعبياً تتداوله العامة بل أصبحت مقياساً يقاس بها وعليها الرؤساء والزعماء السياسيون وغير السياسيين، والحكومات !
ولابد لي أن أقول هنا، بأن الإشارة لقوة هذا الزعيم أو ذاك في المقال، لا تعني تأييدي وإعجابي بسياسته ومنهجه، إنما فقط لأضرب المثل على قوته وقدرته على (إملاء) كرسي الموقع ليس إلا. لقد كان عبد الكريم قاسم زعيماً فذاً، تمكن من فرض اسمه وشخصه ووجوده، بفضل نشاطه وانجازاته وقدراته الفردية، وليس بفضل سلاحه، أو قوة جيشه او آبار نفطه! وقد رأينا كيف تسفّه موقع الرئاسة نفسه، بعد رحيل الزعيم قاسم، وتحديداً في زمن عبد السلام عارف، وكيف ضعف الموقع أيضاً في عهد الرئيس (الوديع) عبد الرحمن عارف، الذي سلم سلطاته بشكل غير مباشر الى قريبه سعيد صليبي..!
ولقد بلغ مستوى الضعف في دولة (عارف) الى الحد الذي يجرؤ فيه طيار عراقي عسكري على الهروب بطائرته الى اسرائيل دون أن تضرب خلفه طلقة واحدة، وهو أمر لم يكن يحدث في العراق من قبل قط! ولدينا امثلة عديدة عن الفرق بين الخيّال (الحقيقي)و(خيّال المآته) فمثلاً كانت الجزائر في عهد الزعيم القوي هواري بومدين، غير (الجزائر) في زمن خليفته (الدمية) الشاذلي بن جديد، كما أن تونس في عهد الرئيس بورقيبة تختلف عن تونس خليفته (بن علي)، ومصر عبد الناصر أو السادات ليست مثل مصر حسني مبارك، فقد كان جمال عبد الناصر زعيماً لامعاً بحق، بينما لم يكن مبارك سوى نكتة للمصريين، يتندرون بها عندما يروق ويسمو عندهم ( المزاج)!
وفي بريطانيا فإن الحال لم يكن أفضل من الحال في مصر وتونس، فقد كان تشرشل والحديدية تاتشر، مختلفين تماماً عن الذين تزعموا حكومات لندن بعدهما، مثل توني بلير، وجونسون وغيرهما.. نعم، فالحكم في بريطانيا خير مثال على الفوارق بين (الخيّال) و(السائس) في مضمار السياسة. والشيء نفسه يمكن قوله عن فرنسا ديغول وميتران، مقارنة بفرنسا (ماكرون) وامثاله الكارتونيين ! ولو مضينا الى روسيا مثلاً، هل يمكن لنا ان نساوي بين كرسي القوي (بوتين) وكرسي البائس يلتسين؟
أنا أتحدث هنا عن الزعيم المقتدر والجدير والنافع ، وارجو أن لايفهم قولي، وكأني أبحث عن الرئيس العنيف، الفتاك، وإلا لكنت قد ذكرت (ستالين) جنباً الى جنب تشرشل وديغول رغم أن في ستالين خصالاً عظيمة لا تتوفر عند غيره، لكن عنف الرجل المبالغ فيه، جعلني أتجاوز ذكره !
هناك امثلة أخرى، فمثلاً كان كسينجر مستشاراً مميزاً بارعاً للأمن القومي الامريكي، حتى حسبناه رئيساً للولايات المتحدة وليس مستشاراً، بسبب قوة شخصيته، وامكاناته الفردية والعلمية العالية، بينما نجد خلفه المستشار (ريتشارد آلن)، قد حوّل منصب مستشار الأمن القومي الى أضعف حلقة في بنية الدولة الأمريكية.
وفي العراق يمكن أن نعقد مقارنة – مع الفارق- بين منصب مستشار الأمن القومي في زَمَني موفق الربيعي، وقاسم الاعرجي، ولا أظن أن الفرق بينهما كان بسيطاً. وقد يقول أحد أن منصب مستشار الامن القومي في العراق ليس مهماً وفاعلاً، وهو غير ذي قيمة، وأنا أقول: نعم، هو ليس مهماً ولا فاعلاً، حين يكون المستشار هزيلاً، وبلا قيمة ايضاً، حين يكون المستشار (خردة)،لا طعم ولا لون، ولا رائحة، لكن هذا المنصب ، سيصبح لامعاً، وذا لون وطعم، وقيمة كبيرة حين يكون صاحبه فاعلاً مقتدراً جديراً، لهذا نجح قاسم الاعرجي في الارتقاء بهذا الموقع الى مكان عال ربما أعلى من حق الموقع، بينما هبط الدكتور الربيعي بالمنصب الى درجات دنيا لا يستحقها الموقع أيضاً !
وفي التصنيع الحربي يقال الكلام ذاته، فقد تلاشت هذه المؤسسة الحيوية بعد تفكيك الصناعات الحربية، بأمر من الحاكم المدني بريمر، حين قام بموجب القرار 75 لسنة 2004، بحل التصنيع العسكري، الذي تعرضت منشآته للنهب، فضاعت بذلك فرصة الاستفادة من مصانع عملاقة جرى استيرادها بأموال عراقية، لكن قرار تعيين المهندس محمد صاحب الدراجي الحاصل على شهادة الماجستير في الهندسة من جامعة بريطانية، رئيساً لهيئة التصنيع، كان قراراً صائباً، فقد (أُعطي الخبز لخبازه) كما يقال في المثل الشعبي.. وقد بدأ الرجل يضع منذ الساعات الاولى، الخطط المطلوبة من أجل تعافي هذا القطاع المهم، رغم ضعف الامكانات الفنية والمادية، وبسرعة راح الدراجي يسابق الزمن لإعادة بعض لمعان ذلك المنجز الكبير، لاسيما وأن العراق كان يحتل مراتب متقدمة في الصناعات العسكرية، خصوصاً في ثمانينيات القرن الماضي.
فنجح الرجل في اعادة عجلة الإنتاج العسكري الى سكة العمل مرة ثانية، بهدف تقليل الاعتماد على الاستيراد، وبالذات في ما يتعلق بالذخائر والمدافع والعربات العسكرية. والمصيبة أن العراق كان يستورد خلال السنوات الماضية 96 في المائة من حاجة القوات العسكرية من مختلف الدول..
وها هو الدراجي ورفاقه ينجحون اليوم في إحياء هذا القطاع الميت، وإعادته الى العمل، بل والانجاز ايضاً.
وللحق، فأن غير الدراجي والأعرجي هناك أكثر من ( آمر ) مقتدر في العراق، وأكثر من (خيّال) يعتمد عليه، لكن كثرة (الغمان) هذه الأيام، غطت على بهاء المشهد، فاختلط للأسف حابلها بنابلها، وضاع علينا الخيط والعصفور ! إذن فالفرس بخيالها، ولكن حين يكون الخيّال (فيطي) فمن المؤكد أن الفرس ستكون (فيطية) ايضاً !