ولادات أقل… مستقبل بلا عمق سكاني

بقلم : الحقوقية انوار داود الخفاجي ..
أثار تصريح صندوق الأمم المتحدة للإسكان الأخير بشأن انخفاض معدل الخصوبة في العراق إلى ٤ ولادات لكل امرأة، حالة من القلق والتساؤل حول الأسباب الكامنة وراء هذا التحول السكاني، وانعكاساته المحتملة على المجتمع العراقي، خاصة في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابكة.
لطالما عُرف العراق بتركيبته السكانية الفتية، والتي كانت تُعد مصدر قوة كامنة، وسندًا للتنمية والتجديد. لكن تراجع معدل الخصوبة إلى ٤ ولادات فقط، بعدما كان الرقم يتجاوز ٧ في العقود الماضية، يضع البلاد أمام تحدٍ سكاني لم يعتد عليه، وربما يُنبئ بتحولات ديموغرافية قد تُغير ملامح المجتمع العراقي خلال العقود المقبلة.
يعود هذا الانخفاض إلى مجموعة معقدة من العوامل أبرزها التدهور الاقتصادي، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما دفع العديد من العائلات إلى تأجيل الإنجاب أو الاكتفاء بعدد محدود من الأطفال خشية العجز عن إعالتهم. كما أن الأزمات الأمنية وعدم الاستقرار السياسي لعبت دورًا في تغيير أولويات الأسر، التي باتت تركز على البقاء والاستقرار لا على التوسع العائلي.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل صعود الوعي النسوي والتعليم، خصوصًا في صفوف النساء، وازدياد مشاركة المرأة في سوق العمل، مما غيّر نظرتها تجاه الإنجاب، وأصبحت الكثير من النساء تعتبر الإنجاب قرارًا مدروسًا لا مسارًا حتميًا.
هذا التراجع، إن لم يُعالج برؤية استراتيجية، قد يهدد توازن النمو السكاني مستقبلاً، ويُفضي إلى شيخوخة مجتمعية تدريجية، حيث تقل نسب الشباب، وترتفع نسب كبار السن، ما يُسبب ضغطًا على أنظمة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، ويؤدي إلى نقص في الأيدي العاملة، خصوصًا في القطاعات التي تتطلب طاقة شبابية.
في مجتمع يعتمد كثيرًا على الطاقة البشرية، فإن تناقص عدد السكان مستقبلاً سيؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي، وسيدفع الدولة إلى الاعتماد على الاستيراد أو على العمالة الأجنبية، وهو ما يُشكل خطرًا على السيادة الاقتصادية.
ولمواجهة هذه التحديات، لا بد من تبني سياسة سكانية وطنية شاملة تُشجع على التوازن في معدلات الخصوبة، وتوفر بيئة داعمة للأسرة. تبدأ هذه السياسات من دعم الشباب في توفير فرص العمل والسكن، مرورًا بتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، وصولاً إلى تقديم حوافز للأسر التي تُنجب ضمن خطة تنظيمية واضحة كما أن توعية المجتمع، وخاصة المرأة، بدورها الأساسي في التنمية لا يتعارض مع الإنجاب، بل يتطلب تهيئة ظروف إنسانية واقتصادية تجعل من الأسرة مساحة آمنة للطفولة والتنشئة.
وفي الختام إن مستقبل العراق لا يُقاس فقط بثرواته النفطية، بل بعمقه السكاني أيضًا، وإذا أردنا عراقًا قويًا في منتصف القرن، فعلينا اليوم أن نُعيد التفكير في كيفية إعادة الحياة إلى نهر الولادات لا ليغرقنا، بل ليروي مستقبلنا.