الذكريات الباقيات….(( سطور في الغربة )) هذه بعض مقالات سنوات الغربة المرة …ماتزال ناقضة ساخنة كانها استلت من القلب والقلم الآن اضعها بين ايديكم لعلها تروق لكم. في حضرة العراق ……!!
بقلم: سعد الأوسي ..
بعد رحلة عمل الى بعض دول الخليج العربي , كانت دولة الامارات العربية المتحدة محطتي الاخيرة , ثم غادرتها الى تركيا دار اقامتي حينها على متن طائرة الخطوط الجوية الاماراتية Emarate , اخذت الطائرة مسارها في زرقة السماء وانشغل كل مسافر في شأن يلهيه ليقضي الساعات الخمس المملة من دبي الى اسطنبول، ولم تجد نفسي سوى خلوتها الى همومها ملاذا يقطعني عن كل ما يدور حولي ويأخذني الى عالم التأمل في بحر خيالات وذكريات وظنون وهواجس وجراح قديمات وافراح مطفآت في غمرة تراجيديا الزمن الاسود الذي عشناه ولم ننتبه انه سرق اعمارنا في زحمة فوضى الموت والدم والالم والحزن حتى صرنا لا نجد سوى الغربة وطنا و الدمعة زادا واللوعة سكنا وسكينة.
انتبهت الى شاشة تلفزيونية صغيرة امامي تعج بصور وقنوات كثيرة تعرض مايمكن ان يسلي سفرنا وربما تشغل من هو مثلي عن تداعياته وافكاره المعتمة.
فجأة انقطع مسيل الصور والافلام المعروضة على الشاشة لاجدني فجأة امامه , في حضرته وبين يديه !! متوهجا شاخصا بحضوره الفارع البهي ملء العين والسمع والخاطر !!!
لا اصدق انها صدفة محضة هذه التي منحتني كل هذا الفرح النوراني بين يدي الحبيب الاغلى الذي افتقدته على الارض فوجدته في السماء , انها نعمة ربانية اخرى يخصني بها الذي اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون، وقد كان.
انا أؤمن ان لرحمة الله عينا تنظر الى قلوب عباده الملتاعة من علياء سماواتها , ثم تهبط لتمسح دمعة هنا وتداوي جرحا هناك , تعطي الفقير وتبرئ المريض وتجمع الشتيتين بعد طول فراق , وما ذلك الا بعض فيوض القدرة العلية على الارض كي لايخلو قلب من يقين ولا نفس من أمل مهما ارتبكت الرؤية واحتجب المدد، كي لاينقطع رجاء من دعاء مهما طال الامد .
في وهج انوار هذه الرحمة وجدتني في لحظة بين يدي حبيب فارقته منذ سنين طوال لا اعرف كيف مرّت علي , كنت اعد أشهرها واسابيعها وايامها وساعاتها وهي تحبو قاسية متباطئة كانها بلا نهايات , صليت فيها بالف امل والف دعاء كي يمدني الله بعمر يسع ان ارى الحبيب ثانية فاعيد للصدر اضلاعه وللقلب نبضاته الضائعات .
الشاشة التي امامي تنقل صورة عبر كاميرات الطائرة الخارجية مكتوب فوقها:
العراق
والصوت يذهل مسامعي و يقول : نحن الان فوق اجواء العراق !!!
انقطعت انفاسي وحواسي للحظات بعد ان سمعت اسمه
عراااااق ملء الارض والسماء انت ياعراق ايها المارد العملاق
ياسيد الحضارات
هل حقا انني الان في حضرتك وبين يديك؟؟ ذاهل القلب والعينين لا اعرف كلمات تليق بعظمتك كي اقول : مرحبا ياسيدي وحبيبي بعد طول غياب
يا مالك قلبي المفجوع بالبعد عنك
يا ابي واخي وعمي وخالي
يا كل اهلي
يا تراب السماوات ومجرى دموع الملائكة , ايها الرسول النوراني الى الارض يوم كانت يبابا وعمى وصمما
انت انبضتها خضرة ورؤية وحضارة وحروف كتابة وقوانين ومحبات ربّانية لم تعرف القلوب كمثلها وهجا ولا كُنهاً ولا طعما ولا تفسيرا
انتبهت المضيفة الاجنبية وهي تمر قرب مقعدي الى حالتي الغريبة الاقرب الى الهذيان , ومسيلٌ واضح لدمعات ساخنات على جانب الوجه لا اجرؤ ان المس حرقتها،
سألتني فأجبتها باشارة ان لاشئ فمضت وهي تغمغم مستغربةً مما انا فيه.
كنت منتشيا متلاشيا ثملا بخمرة عشق قدسي مترنحا باجنحة من حنين وانا اتلمس بروحي ملامح سمائه الفاتنة
انه العراق ياقلبي… انه العراق
وطنك الذي فارقته مكرها ملوما مغموما محسورا مقسورا بعد ان طاردك اخوة وخفافيش الظلام وابناء الشياطين بغوائلهم وكواتمهم الملعونة، هؤلاء الذين جاؤا من عزلة جشعهم وحرائق ذلتهم ومنافي احقادهم السوداء
مجهولين منسولين من نطف الخيانة متسللين الى جنان احلامنا وشواخص كبريائنا كي يطعنوها جدبا وبلاء وموتا اعمى وسنيناً عجفاء لا يعلم إلا الله متى تبرأ روح الوطن من درنها ويلتئم جرح قلبه.
اقف الان في حضرة ملكوتك مرة اخرى وبين اجنحة سمائك لاعيد لملمة القلب بذكريات وارفات ابيّات على الانكسار عصيات على النسيان
ايها الكل شئ في قاموس وجودي
وكل شئ سواك باطل وقبض ريح
يوم قال لي الاخوة والاهل والصحب والرفاق لم يعد لك وقت ولامتسع لحياة هنا يا سعد , وليس لك الا الرحيل مأوى اوحد , بعد ان تربص بك المتربصون وشحذوا خناجر منيتك ورسموا لقتلك الف وجه ووجه
لابُدّ من الرحيل
ان لم يكن الرحيل من اجلك فمن اجل اهلك المفجوعين حتى الآن من سنوات اعتقالك
ما جريرة هؤلاء النساء والاطفال كي يدفعوا فاتورة معركتك مع هؤلاء الارجاس ؟؟
قلت : هي والله الميتة المشتهاة بين يدي العراق ومن اجله
فقال لي حكيم منهم : الحياة بين يدي العراق ومن اجله اثمن من موت مجاني بيد هؤلاء الذين يسجلون نصرا حقيرا كلما اغتالوا صوتا او اطفأوا نورا
,اوغاد جهلة سفلة لايعدل احسنهم شعرة كلب اجرب مسعور
انه ليس موت فداء من اجل الوطن بل اغتيال موتور جبان مختبئ في زاوية او ظلمة نتنة
انهم يحلمون بعراق خال من الرجال الشرفاء صادقي العهد،
رجال الهمم العالية والنفوس العالية والاصوات العالية
يريدون ان يخلو لهم افقه وتحلو لهم سرقته ثم ذبحه (قطع الله ايديهم)
قال لي صديق آخر , واحسبه بالغ في مجاملتي كي يغريني بقرار الرحيل
: انت صوت صارخ في وجوههم بالغ الوضوح في كوكبة اصوات العراق
قلمك يؤرقهم ويفضح سوء افعالهم وقبائح جرائمهم و لصوصيتهم المقيتة , ولاشك انك مقاتل كألف مقاتل وسيف بألف بندقية، فلا تبلغهم مرادهم في الوطن وفيك , وما رحيلك هذا الا لتعود ذات يوم قريب بعد ان يكون الوطن قد تطهر من رجس هؤلاء ودنس مافعلوه , لسنا نحن الذين نشجعك على الخروج بل هو العراق الذي يأمرك ان تفارقه فراق الوامق المحب الوفي المخلص , وهو يعلم أنك لن تغادره ابدا لانه يسكن فيك ويجري في دمك
فأطع ولا تعص .
هكذا اطعت أمرك ياوطني العزيز فخرجت , لم أخرج اشرا و لا بطرا ولا هاربا ولا ناكثا ولا خذلا ولا طامعا ولا طامحا و لا طالب متعة او جاه او مال , فكل متعة وجاه ومال بل وكل مطلب بعيداً عنك ليس سوى هواء في شباك مخرّقة , لا يغني ولا يسمن ولا يرجى منه شبع وري وشفاء وهدأة عين .
عادت المضيفة اليّ مرة ثانية وفي وجهها شبح قلق عليّ كمسافر صارت تلوح عليه صفرة وتوعك فظنت انني ربما كنت مريضا احتاج دواء او مساعدة , اجبت عينيها المتسائلتين حتى قبل ان تتكلم
: أنا عراقي
وهذا وطني الذي نحلّق في سمائه الان !!!
قرأت في عينيها انها عرفت انني الان عابد في صومعة او مصل في مسجد لا يجوز لأحد ان يقطع عليه خلوته وتوحدّه , فانسلّت دونما كلمة وتركتني لتهجدي وذكرياتي التي صارت تنهال علي صورا متسارعة كامواج أضواء بارقة ,,
انا الان في الباب الشرقي
بل في شارع السعدون
هاهي ذي الوزيرية تغازلني بخطوات الصبايا العائدات من الكليات وهن اجمل صبايا اهل الدنيا كلها
هاهو المجمع الطلابي في الباب المعظم هاهي جامعتي بغداد وكليتي الآداب ,
بل هذه العطيفية النائمة على كتف دجلة الخالد ,
الكرادة ومدينة الثورة تلوحان لي من بعيد هاهو قطاع 13 وتانكي الماء , هاهو حي جميلة و الاعظمية , الصليخ , راغبة خاتون , علاوي الحلة , الصالحية , شارع الرشيد , سوق الغزل , الشورجة , سوق الصفافير , حي الجامعة , المنصور , حي الخضراء ,العرصات والجادرية .
هاهو حي الادريسي وحي المهندسين وحي المستنصرية وساحة بيروت وساحة 83 وساحة مظفر وحي الامانة واور والشعب,, انها ملامح بغداد الفاتنة , سيدة قلبي , طيوف صباي وضحكات شبابي والتماعة اول الشيبات في راسي , مدارسي , كليتي , كتبي , اوراقي , بيتي الحزين الغارق في الظلام منذ شهور يبكي وحدته وتبحث عيناه الحائرتان عن خطوات الاهل الذين يصلون في اركانه.
هاهنا كان الاحبة والاهل والاقارب
ضحكاتهم لاتزال في ارجائه
يا ألله
الرحمة يارب من كل هذا العذاب،
ترى كيف اطعت نصائحهم وغادرت هذا الجمال الباذخ الذي لن ارى له مثلا ولاشبها في اكبر واجمل عواصم الدنيا ؟
ايها الوطن الجميل : لماذا انت رغم فجائعك وحرائقك وانفجاراتك تظل مشرقا متألقا لا تطفئك كل جيوش الظلام؟؟؟
لماذا أنت جميل هكذا مثل نصف جنة على الارض ؟؟؟
بل مثل جنة كاملة وارفة بكل نعيمها في عليين
قتلتني ياعراق
والله لقد قتلتني بالمحبة والحنين والشوق
سامحك الله
( هل سابدو مجنونا الان لو طلبت من كابتن الطائرة ان يغرف لي ولو قبضة كف واحدة من هوائك كي ابرد بها هذه النار المشتعلة في قلبي ولهاً عليك؟
عراااق ليس في الدنيا أطيب من هوائك وأعذب من مائك وأكثر بركة من رزقك وأهيب من شيوخك وأصلب من رجالك و أحنّ من امهاتك وأرق من بناتك وأوفى من أخائك وأكرم من جوارك وأطرب من غنائك وأرحب من بيوتك و أطعم من خبزك , قتلتني يا عراق والله لقد قتلتني .
حزني فيك كان اجمل من كل افراحي بعيدا عنك
لا اصدق ان هنالك فرحاً بعيدا عنك
هل ستذكر وجهي حين اعود اليك بعد ان طال غيابي عنك ؟
هل ستربت على كتف لهفتي حين اعود اليك ؟
قد أموت حزنا اذا رايت في وجهك إعراضاً او ترحيب مجاملة او صدى سلام بارد,
انني عاشق بقلب مجروح متعب مثقل ببعده عنك فهل تجيب اسئلتي ياسيدي وتمنحني بريق امل ,
عدني انني ساجد في صدرك الحاني نفس المأوى والحنو كأنني مافارقتك ابدا .
كنت انظر من نافذة الطائرة محدقا في السماء الفسيحة وانا انبس بكل هذا الرجاء حين اضاء لي فجأة وجه نوراني مبتسم , وجه بحجم كل السماء
مهيب بلحية بيضاء مشرقة كانه من رحيق الجنة ,
أومأ لي بعيني رضاه وقال : لا تخف فالاب لا ينسى ابناءه مهما بعدت بهم المسافات وطالت ازمنة الغياب , لانهم موسومون في قلبه وذاكرته , وان موعدي معك ليس ببعيد , ستزول الغمة وستعود و يعود معك كل ابنائي الصادقين العهد البارين المحبة , قريبا , ربما اقرب مما تظن , امسك بعرى صدقك وشجاعتك ووفائك وسترى كيف ان الوطن يجزي المحب بجنس عمله , انه الاختبار والمحنة التي تعقبها المنحة , فصبرا جميلا يا سعد , صبرا جميلا والله المستعان
كدت اقفز من مكاني واصرخ فرحا حين ناداني الوطن باسمي ,
نعم لقد سمعته مليا ,
يقينا وليس وهما
وهو يناديني باسمي
انه يعرفني بل ويعرف اسماء كل من يحمله في قلبه بصدق المحبة ,
انه العراق العظيم
التفتُّ في هذه اللحظة لاجد المضيفة الاجنبية تنظر الي باستغراب وهي تحسبني في نوبة هذيان , قلت لها بالعربية رغم يقيني انها لا تفهم ما اقول
: انه العراق العظيم
ابتسمت وقالت بالانكليزية yes I Know , ربما كانت تعرف حقا ,, وربما كانت تجاملني , المهم انني شعرت براحة عميقة , ثم اغمضت عيني لعلها تعرف طعم النوم الان .