لا تحبسوا عليَّ بن أبي طالب في الجوامع والحسينيات !
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
يعتقد بعض المتدينين – للأسف -أن الأشخاص غير المتدينين، أناس كفار، فجار، مارقون، لا يجوز التعامل والتبادل والتكافل والتنافع معهم، بل ولا يجوز حتى السلام عليهم، بمعنى أن يتم احتسابهم كافرين.. رغم ان مصطلح الكافر، “مصطلح خاص بالدراسات الكنسية في المسيحية!
فالمتدين يستكثر على غير المتدين إقامته لأية شعيرة، أو ممارسته لأي طقس من الطقوس، كالصيام في رمضان، أو الطبخ في عاشوراء، أو زيارة أحد مراقد الائمة، إذ سينبري له أكثر من منتقد بتعليق ساخر او نقد هازئ مثل: (إنت مو ما تؤمن بالدين، ليش تصوم، وليش تزور، أو ليش تطبخ للحسين)؟!
حتى وصل الأمر بالبعض الى أن يمنع عليك التغني بثورة الحسين، أو كتابة قصيدة عن علي بن أبي طالب، وذكر فضائله في العلوم والبلاغة والزهد والنزاهة والعدل والنقاء والشجاعة الفذة.. وكثيراً ما يتناسى المنتقدون والساخرون أن حب علي
كالهواء والشمس، والحب مشاع للجميع، ولا أحد -مهما كان- يملك الحق في منع الناس عن حبه، والتغني بروعته.. ولو كان هؤلاء قد نظروا الى اقرب رفاق علي وأعز أصحابه، فلن يجدوا سوى حشد من الفقراء والمحرومين والعبيد وأبناء الطبقات والأقوام المختلطة، فلا ثري من قريش، أو تاجر من هوازن بين اصحابه، إنما كان جلهم خليط من الحفاة العراة، امثال أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والمقداد بن أسود وغيرهم.. فلماذا لم يُمنع هؤلاء الحفاة عن محبة علي، ويبعدوهم عن صحبته، وهو ابن عم النبي، وهم أبناء هوامش الأقوام والطبقات؟!
إن علي بن أبي طالب – قبل أن يكون ابن عم النبي وخليفة المسلمين، وقبل أن يكون علماً خفاقاً فوق سارية التاريخ، كان موقفاً أخلاقياً بأعمق وأنبل مفهوم الأخلاق. فهو منظومة مبنية على أسس ومنطلقات أخلاقية تعتبر (الإنسان) ومحيطه، أعلى الغايات وأنبل القيم التي يؤمن بها ويجاهد من أجل تأكيدها.
وأنا شخصياً، أرى أن علي ابن أبي طالب أقرب الى أصحاب الأفكار الاشتراكية من (غيرهم )!
فقد كان علياً، إنسانياً أممياً يشهد له قوله: “الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”.. وكان علي أيضاً ثورياً فذاً، واشتراكياً لا يختلف حول اشتراكيته اثنان مهما كانا. إذ يكفيه ويكفينا فخراً، أنه الخليفة الوحيد الذي كان يرتدي أثناء خلافته وقبلها، ثوباً مرقوعاً يصل الى نصف ساقه، وهو الذي بيده كل خزائن وأموال الخلافة ..! وتأكيداً لقولي عن عدم قبول البعض من الاخوة المتدينين.. أذكر هنا قصيدة نشرتها قبل سنوات في (اليوتيوب)، وهي قصيدة أظن أنها باتت معروفة، بعنوان:
( أنا وياك وصفنتي وآخر الليل) وفي هذه القصيدة ترجمت بعضاً من قيمي وأخلاقي وفلسفتي في الحياة، وقد كتبت هذه القصيدة أثناء الحرب العراقية الإيرانية.. وفيها خاتمة تقول: ” أنا بگلبي شعاع إيمان ياليل .. وكل نبضة بوريدي تحش الذنوب .. وإذا أنخه علينا بيوم ياليل .. تخرسّ المنايا وتنجلي النوب.. وإذا ضكت عليّ الباب ياليل .. دمعة إعله الحسين تفلش البوب”..
ورغم مئات التعليقات الاعجابية بالقصيدة، كان ثمة تعليق أدهشني فعلاً يقول فيه صاحبه: إنت شلون علماني وتمدح علي والحسين ؟
لقد ذكرتني هذه القصيدة تحديداً بموقف كاد ينتهي بكارثة قبل حوالي اربعين عاماً، حين دعاني الصديق العزيز محمد الجمالي لحفل صغير أقامه في بيته، بمناسبة ترقية شقيقه الأصغر الى رتبة مقدم، وقد دعا آمر اللواء الذي ينتسب له شقيقه، وقائد الفرقة، وكان من بين المدعوين اللواء الركن -آنذاك- علي محمد الشلال، الذي سيصبح صديقي بعد تلك الليلة.
وبهذه الدعوة أراد محمد الجمالي أن يكوّن علاقات مع الضباط والمسؤولين لحماية شقيقه من ذئاب (الحزب والثورة)!!.. ولأن صاحب الدعوة محبوب وطيب، وصديق للفنانين، ولكونه موظفاً في وزارة التربية، وكان شفيعنا في كل معاملة او مشكلة تحدث لنا او لأبنائنا في الوزارة.. فقد لبى دعوته الكثير من الشعراء والفنانين الشباب -آنذاك طبعاً- بحيث لا يسع المجال لذكرهم هنا، وقد كان من بين المدعوين الحكوميين، شخص يكنى بأبي عمر، يرتدي زي أبناء المناطق الغربية، وقد عرفنا أنه (مسؤول كبير في الدولة). ومن سوء الصدف، أن يجلس أبو عمر قبالتي، بل وعلى نفس طاولتي.. ومنذ اللحظة الاولى لم يحصل أي ود بيني وبينه، خاصة وأن طريقته في (الشرب) لم تكن طبيعية، فقد التهم أبو عمر نصف القنينة خلال نصف ساعة، او ربما أقل.. وبصراحة فقد كان قلبي ينبئني بقادم لا يسر من هذا الرجل .. الم يقل شكسبير: ” ما ﻻ يرتاح له قلبك ﻻ تثق به أبداً، فالقلب أبصَر من العين .”
لقد كانت الحفلة رائعة، غنى فيها المطربون المبدعون وأجادوا، ووسط الحاح الحضور وطلبهم، قرأت قصيدة (أنا وياك وصفنتي وآخر الليل).. وما أن قرأت المقطع الأخير المتعلق بالإمام علي، حتى وقف أبو عمر منتفضاً وهو يقول: ليش حشرت علي بن أبي طالب بالقصيدة حشر.. ؟
فقلت له: نحن لا نحشر علياً، فمثله لا يحشر، وهل رأيت جبلاً يحشر؟
إن علياً يحضر في حياتنا بكل تفاصيلها، فهو مثل الهواء الذي نتنفسه.
لكن أبا عمر غضب من ردي، واعتبر الأمر قصدياً ضده، فقال: انتوا شنو علاقتكم بعلي ابن ابي طالب .. انتم براء من علي .. انتم ناس أجيتوا من ( …… )!! وراح أبو عمر (يخرط)، ويتهجم علينا جميعاً دون استثناء، ويبدو أن (السكر) قد أخذ منه مأخذاً.. وفجأة نهض الفنان رياض كريم – صاحب أغنية مراسيل- وصاح به : ” أسكت لك حقير.. لاتنگس اسم الامام علي بلسانك .. كل شي ولا تجيب علي بن أبي طالب!
وبقفزة واحدة أصبح رياض أمامه، ليوجه له لكمة خاطفة قوية فتحت في الحال جرحاً واسعاً في وجهه، حتى هرع أفراد حمايته وحمايات القادة الحاضرين، الذين كانوا يحيطون الدار، في حين غادر أغلبنا الحفل مسرعاً أو بالأصح (هارباً)، تجنباً للمشاكل التي ستحصل، وكان رياض كريم اول المغادرين طبعاً !!
بعد تلك الحفلة بثلاثة أيام، وهي أيام عشناها برعب وهلع، إذ كنا نتوقع هجوماً (امنياً) في أية لحظة، لكن العكس قد حدث، حيث اتصل بنا اللواء علي محمد الشلال يدعونا لجلسة مصالحة طلبها أبو عمر نفسه.. إذ اخبرنا الشلال أن الرجل يشعر بالندم، وبالخطأ الذي ارتكبه تلك الليلة، ويريد الاعتذار.. وفعلاً، فقد حجز لنا مطعماً بكامله.. وكانت وليمة فاخرة، وصلحاً زرع في قلوبنا الطمأنينة بعد الأيام الثلاثة المرعبة التي عشناها.. في ختام الدعوة وقف أبو عمر قائلاً: صدقوني أخوان، أنا مثلكم أعشق علي بن أبي طالب، وما حدث تلك الليلة لم يكن بسبب اسم علي في القصيدة، إنما لشعوري الخاطئ بأن الأخ فالح كان يستهدفني وهو يقرأ ذلك المقطع، وهو شعور بثه الشك، وركّزه (السكر )!
لقد أردت أن أقول من خلال هذا الاستذكار، إن محبي علي بن أبي طالب المتفقين حول شخصه، مختلفون في الأجناس والالوان والاديان، وهو أمر طبيعي، سواء أكانوا من المتدينين، أو من الفنانين، أو الشعراء أو غيرهم، ولا يفرق في ذلك، الشيعي عن السني، ولا المسلم عن غير المسلم.. فالشاعر المسيحي جورج جرداق صاحب قصيدة (هذه ليلتي) التي لحنها محمد عبد الوهاب، وغنتها ام كلثوم، ألف كتابا عن علي بن ابي طالب، بخمسة أجزاء، عنوانه: (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية).
والكاتبان المسيحيان، ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، والشاعر المسيحي بولس سلامة، والكاتب الفذ عباس العقاد، وغير هؤلاء الكبار، ثمة الملايين من العشاق لأبي الحسن وهم من مختلف الأديان والملل. وأختم مقالي بهذا المثال في محبة غير المسلمين لعلي بن أبي طالب :
” لي صديق، مسيحي، يسكن في نفس منطقتي، وهو شيوعي منذ اكثر من ستين عاماً، اسمه جمال زيا جميل، لكن اصدقاءنا يسمونه (عبد الزهره)، بسبب حبه الفائق للإمام علي ..
والسؤال: هل سنمنع الأخ (عبد الزهره) من حب علي لانه شيوعي و (نصراني)؟!