بلاويكم نيوز

النقود الملكية الحمراء

0

بقلم: د.مظهر محمد صالح ..

ظلت رياح خريف العام 1932 دافئة لاتمتلك في تقلباتها سوى تلك الاوراق الصفراء الجافة الخالية من اللون والوفاء وربما الايمان .وظل شقاء ذلك المعلم الذي تسلق تجمعا سكانياً قرويا في اعالي الفرات في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي ينتظر مصدر عيشه الذي انقطعت سبله منذ اشهر عديدة ،وهو آسف البال ويؤدي خدمات تعليمية جليلة لسكان قرى وقصبات بقيت تغفو بسلام على اخاديد الفرات الاعلى في زروع زينت وديانها و روابيها .ولكن ظل جميع الدائنين وهم من اهل القرى ينتظرون مجيء راتب معلمنا الذي تقطع وصوله منذ امد ليس بالقصير وهو يكابد بنفسه غصة آلامه التي قوامها اسف البال والجيب والحال.وعلى الرغم من كثرة الدائنين من سكان القرية ممن اقترض منهم معلمنا ليسد رمق عيشه بانتظار مصدر رزقه ،فلم يفقده الامل عذوبة وصفاء لحظات سرت الى مسامعه جاءت باصوات شخص ينادي من الضفة الاخرى من الفرات قائلا له ايها الشاب المعلم : وصلك بالبريد الملكي كيسين من قطع النقود وهي المتراكم من معاشات عملك التي لم تدفع طوال الاشهر الماضية. هنا ترامت الى اذان جميع من في القرية من بعيد نتف من اخبار مفرحة تؤشر ان معلمنا قد استعاد انفاسه وطاب عيشه وان روافع القرية المالية ستعمل بفاعلية اعلى بعد ان اصابها شي من الركود والخذلان .مرت دقائق معدودات حتى خرج رجلان من زورقهما الخشبي الذي اصطف على ساحل النهر وهما مثقلان بكيسين من قماش حملاهما على صدرهما معبئين بقطع نقدية معدنية حمراء شديدة اللمعان من فئة الفلس الملكي الواحد . تهامست القرية باهلها جميعا ان نظاما نقديا جديدا قد ولجته الدولة العراقية باصدار دينار ملكي كبديل للعملة الربية الهندية وان كل نقد آخر سوى الدينار هو باطل.مضي يوم جميل انغمس فيه الجميع في جدال حول طبيعة النظام النقدي الملكي الجديد وفئات عملته وبدى الشك يساورهم بالقطعة المعدنية الحمراء وهي الوحيدة التي تغلغلت الى تعاملات قريتهم ذلك بين الرفض والقبول ثم انحدر الجميع في مساء غائم انتهى برفضهم قبول ذلك الفلس الاحمر في تسوية دائنيتهم تجاه معلمهم الوحيد .فكان الرافض الاول لقبول عملة الفلس هو القصاب الذي صعب عليه التحول من بقايا الربية الهندية وكسورها ليقبل بالفلس الجديد الذي صار يشكل واحد من الف من الدينار و يعادل في الوقت نفسه الباون الاسترليني البريطاني .
تلاشت يومها احلام معلمنا بعد ان رفضت القرية بقضها وقضيضها قبول التعاطي بالفلس الاحمر وتحول الجميع من فورهم الى اشباح خاوية حينما عزموا التخلي عن قبول النظام النقدي الجديد باصغر فئاته وهو الفلس الملكي الاحمر. صمت الرجل وحبس انفاسه ووهن من شدة حزنه وتلاشت احلامه الجميلة بعد ان سكب في اذنيه صوت الهزيمة الذي خلا من كل النبرات الا نبرة تبشره بحصاد سالب قوامه رفض قبول تسديد ديونه المتراكمة بعملة من معدن احمر لامع تعادل قيمته اللاشي في تلك اللحظات .قام معلمنا من فوره بتوزيع اكياسه المحملة بالفلاسين الحمراء الملكية الى فقراء القرية ليبشرهم ان نظاما نقديا جديدا سيكون مقبولا بقوة القانون ولكن انتظروا ايها المساكين حتى الربيع القادم بعد ان ان يمضي خريفنا هذا بذكريات قوامها فلس احمر مرفوض. هنا تذكر الرجل من فوره معاناة والده الذي كان موظفا حكومياً في الادارة العثمانية المتاخرة قبل اقل من عقدين من ذلك التاريخ وتعرض لحادث مماثل جراء تبدل النظام النقدي العثماني( يوم كانت الليرة العثمانية الوحدة معادلة لـ (7.247) غرام من الذهب الخالص، او ما يعادل (4.40) دولار امريكي ذهبي .واثر اعلان الحرب العالمية الاولى اتخذت الدولة العثمانية اجراءات استثنائية بغية تمويل احتياجاتها العسكرية، فأصدرت اوراقاً نقدية لاستعمالها بدلاً عن الليرة الذهبية والنقود الفضية وهو تمويل عاجل للموازنة العثمانية بالتضخم ). سكت معلمنا في سره هنيهة وتذكر حيرة والده الذي كان موظفا حكوميا في قرى وقصبات الضفة اليمنى المقابلة من اعالي الفرات حين امتنع السكان يومها قبول (الليرة العثمانية الورقية ) التي جاءت براتب والده كبديل الى الليرة الذهبية متذكراً كيف خرج العراق كسائر اجزاء الدولة العثمانية عن قاعدة الذهب ،وكانت نهايات النظام النقدي للدولة العثمانية قد تمثلت برفض العراقيين ولاسيما في الارياف التعاطي (بالليرة الورقية العثمانية الخالية من الذهب ).تنفس معلمنا الصعداء وهو يقارن بين زمنين متباعدين متماثلين احدهما يوم رفضت قريته قبول التعاطي باصغر وحدة نقدية وهي ( الفلس الملكي الاحمر ) وهم سكان الطرف الايسر من الفرات ،مقابل ،رفض اهل القرى في عهد والده قبول الليرة العثمانية الورقية (بعد تبدل النظام النقدي العثماني )وهم سكان الطرف الايمن المقابل من النهر نفسه. التحمت هموم الابن مع اباه كموظفين حكوميين عملا في ازمنة حكومية مختلفة واجهتهما محنة عنوانها تبدل النظم النقدية التي فرضتها ظروف الحرب العالمية الاولى ونتائجها على رقعة جغرافية ثابتة لم تتبدل تضاريسها ومناخاتها وطبيعة سكانها .ختاماً، ليس امام معلمنا وقت ذاك الا ان يتطلع الى آلهة النقود التي ظلت مغتربة في ظلام معبدها الرافديني الاعلى وهي تنظر الى عالم نقودي متبدل لامعنى له في نظر رواد وكهنة معبدها .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط