الشخصية المستقلة ومطرقة التحيز السياسي : بين القبيلة والقومية والطائفة.
بقلم : د. مظهر محمد صالح ..
اثار المفكر الدكتور عقيل الخزعلي رئيس مجلس التنمية العراقي في مقالا مهماً له نشر مؤخرا عنوانه : في العراق ؛ ضَرِيبَةَ أنْ تَكُونَ مُسْتَقِلّاً سِياسيّاً.
وكان الخزعلي يناقش مع واحد من الساسة الجدد الذي يجد في قضية الاستقلال الفردي السياسي كونها (اكذوبة) طالما يحمل الشخص رأياً سياسياً!
وهو ما عده إما نوع من التجديف الاكاديمي أو عدم الموضوعية في استخدام المصطلحات ودلالاتها، والأغرب من ذلك كلّه هو توافق الاغلبية الساحقة من الحزبيين على المقولة أعلاه ليكشفوا عن عُقَدٍ نفسيّة معروفة؛ بالاسقاط والانكار والحساسية المفرطة.
فبغض النظر عن اي الحزبيين يتحدث المفكر الخزعلي …الا انه يرى ان مقاربة مفهوم الاستقلال السياسي في العراق اليوم تعني أن يحتفظ الفرد بمسافة من جميع الأحزاب والجماعات السياسية دون أن يلتزم بأجندات أو أيديولوجيات محددة، بل يختار تقييم الأمور السياسية بموضوعية وفقاً لقناعاته الشخصية. ومع ذلك، وحيث تتشابك الهويات السياسية مع الطائفية والعرقية، يصبح الاستقلال السياسي موقفاً نادراً ومحفوفاً بالتحديات، حيث يُنظر إلى الشخص المستقل في الغالب على أنه “خارج عن السياق” وقد يُتهم بالانتهازية أو التهرب من المسؤولية الاجتماعية تجاه جماعته أو مجتمعه.
ففي تقديري ان ما اثاره الخزعلي اعلاه لايخرج عن تاثير دائرة التحيز السالب باشكاله وبواكيره كافة التي تلف الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في بلادنا.
فظاهرة التحيز bias تشير إلى الميل غير الموضوعي الذي يظهر عند اتخاذ القرارات أو إصدار الأحكام، بناءً على عوامل أو مشاعر ذاتية بدلاً من حقائق موضوعية.
فالتحيز قد يكون إدراكياً، اجتماعياً، أو عاطفياً، وله تأثير كبير على سلوك الأفراد والمجتمعات.
وان اخطر انواع التحيز هو ظاهرة الانكار Denialism
ففي علم نفس السلوك البشري، عد الانكار بمثابة اختيار الشخص لإنكار الواقع كوسيلة لتجنب الإيمان بحقيقة غير مريحة نفسياً.فالإنكار هو فعل غير عقلاني في الأساس يحجب صحة تجربة أو حدث تاريخي عندما يرفض الشخص قبول حقيقة ما.
ولكن بالغالب او الاعم هناك التحيز التاكيدي Confirmation bias الذي اثاره علماء النفس امثال Hart, William Albarracin, D. Eagly, A. H. Brechan, I. Lindberg, M. J. Merrill, L. ذلك في بحثهم المنشور في العام 2009 بعنوان : Feeling validated versus being correct: A meta-analysis of selective exposure to information”, Psychological Bulletin, 135 (4): 555–58
حيث يظهر الأشخاص في هذا التحيز عندما يختارون المعلومات التي تدعم وجهات نظرهم، ويتجاهلون المعلومات المخالفة، أو عندما يفسرون الأدلة الغامضة على أنها تدعم مواقفهم الحالية. ليكون التأثير أقوى بالنسبة للنتائج المرجوة، والقضايا المشحونة عاطفياً، والمعتقدات الراسخة.
لذا فنجد ان التحيز التاكيدي هو جوهر التحيز الادراكي ، حيث يميل الشخص إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداته الحالية فقط، ويتجاهل ما يعارضه.
وبهذا يثير المفكر عقيل الخزعلي مشكلة التحديات التي تواجه المستقلين سياسياً في العراق والتي في مقدمتها
- الضغوط المجتمعية والطائفية، حيث
يعيش العراق في بيئة سياسية واجتماعية طائفية وعرقية معقدة؛ اذ يُنظر إلى الفرد المستقل كحالة استثنائية يصعب فهمها أو تقبلها. اذ تواجه هذه الفئة ضغطاً كبيراً للتوافق مع الانتماءات الطائفية أو العرقية أو القبلية، وغالباً ما يتم اتهام المستقلين بأنهم لا يهتمون بمصالح مجتمعهم أو طائفتهم، مما يؤدي إلى عزلهم اجتماعياً ومهنياً. - غياب التمثيل السياسي الحقيقي، حيث
يعاني العراق من نظام سياسي يعتمد على المحاصصة والتوافقات الحزبية، و يتم توزيع المناصب الحكومية والمكاسب بناءً على الانتماءات الحزبية والطائفية. ففي هذا السياق، يجد المستقلون صعوبة في الحصول على تمثيل سياسي حقيقي أو المشاركة في صنع القرار، لأنهم خارج دوائر الولاء الحزبي التقليدية التي تُعطي الأولوية لمن يدعم أجنداتها بشكل مطلق. - التهميش في المؤسسات العامة والخاصة، كون المستقلين ما زالوا يُعانون من تحديات في الوصول إلى الفرص الوظيفية والمهنية، لا سيما في القطاعات الحكومية التي تسيطر عليها الأحزاب. فغياب الولاء الحزبي أو الطائفي يُعتبر عقبة أمام المستقلين، إذ يُفضّل التوظيف وفقاً للانتماءات السياسية. ويصبح التقدم في المناصب والتدرج الوظيفي أمراً صعباً دون دعم أو حماية من جهة حزبية.
- الخطر على السلامة الشخصية، حيث أنه في حالات كثيرة، يعد اختيار الحياد السياسي في العراق موقفاً محفوفاً بالمخاطر من التعرّض للتهديدات والاعتداءات من جهات سياسية متعددة قد ترى في استقلاله تهديداً لمصالحها أو نفوذها. وتُشير الدراسات إلى أن بعض المستقلين تعرضوا للعنف الجسدي أو التهديدات، خاصةً في الأوقات التي تشهد توترات سياسية أو انقسامات حادة بين الكتل المختلفة .
ما اجده من طرفي ان (التحيز الإدراكيّ cognitive bias ) لابد من ياخذ مكانه في هذه المناظرة الفكرية والعملية الراقية للدكتور الخزعلي. و يمكنني القول بما ياتي :
انه بحث من قلب حقيقة المجتمع المتحزب والمنقسم اثنيا وطائفيا
وهو مجتمع في الوقت نفسه متطرف في ممارسة التحيز bias على الرغم من ان الحياة هي متحيزة بطبيعتها ولكن بدرجات.
وما اراه ايضاً كخاصية شرق اوسطية هناك (ثلاثية خطرة )في مجتمعنا تهدد الوجود المستقل وتغربه وتقمعه وتمارس التدنية minimisation عليه
وهي الاستقطابات السياسية الاثنو طائفية يضاف اليها التصلبات المتحيزة في استهداف المستقلين الاحرار ما يجعل الاستقلال الشخصي في آخر السلم . فتجد غالبية المستقلين يذهب الى ماهو أسوأ، وهو اللجوء الى الحماية القبلية ، وهي دوامة تصادمية تعمل من داخل وخارج (الثلاثية الخطرة-The dangerous trilogy القبلية والاثنية والطائفية ).
فالحفاظ على الاستقلالية حتى داخل المجتمع العشائري يبقى يجعلك في اسفل السلم والحصيلة هي الاغتراب الاجتماعي Social alienation
انها الضريبة ان تكون مستقلاً والتي جسدها الدكتور عقيل الخزعلي في بحثه الذي جاء من قلب حقيقة المجتمع المتحزب والمنقسم اثنيا وطائفيا.
وهو مجتمع في الوقت نفسه نجده بات متطرفاً في ممارسة التحيز bias على الرغم من ان الحياة هي متحيزة بطبيعتها ولكن بدرجات حتى وان كانت ايجابية احياناً .
ختاماً، لما كان التحيز السلبي تحديدا ناجم عن الجهل أو نقص المعلومات ولاسيما عندما يكون لدى الأفراد معلومات غير كافية أو مغلوطة.كذلك فان للعادات والأعراف الاجتماعية من دور في تشجيع على السلوك متحيز. فضلاً عن الرغبة في الانتماء: اي الميل لتبني مواقف أو معتقدات المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. فما علينا الا ان نتفق كثيرا مع الكاتب الخزعلي بان خروج المجتمع المستقل افرادا وجماعات من الضغوط المتحيزة المتحزبة لا يجد ظالته الا من خلال الانخراط في منظمات المجتمع المدني ما يتطلب إضافة الى ذلك : كيفية تقليل التحيز بالذهاب الى:
-التعليم والتوعية: اي زيادة فهم الأفراد لأشكال التحيز وأثرها.
- تعزيز التفكير النقدي: اي تشجيع الناس على تحليل المعلومات بشكل موضوعي.
- التنوع والشمول من خلال خلق بيئات تقدر الاختلافات وتحترمها.
وأخيراً ،ببقى الوعي والتدريب على اتخاذ القرار والتعليم على التقنيات النفسية والاجتماعية والسياسية لتجنب الوقوع في التحيزات السلبية الضارة ضد المجتمع المستقل هو جوهر تطور المجتمعات ورقيها والخروج من مازق الثلاثية الخطرة The dangerous trilogy التي تقيد استقلالية الافراد والجماعات في الحياة السياسية في مجتمعات العالم الثالث وهي: ( القبلية والاثنية والطائفية ).