هموم العقل العراقي
بقلم : د.مظهر محمد صالح …
قد يحالفك الحظ وانت تتطلع فجأة على كتاب الدكتور سعد البازعي “هموم العقل” لترى طابعاً فكرياً تنويرياً متقدماً يكتشف فيه قارئه مراثي الحياة في سلاسل الحضارة الغربية دون التواري خلف حجب الانعزال والاستسلام لتدفق المدنية الرقمية .فعندما يلاقي البازعي الافكار والرؤى المتجانسة التي تصدت الى هموم الفكر في ثقافات عالمية مختلفة، فان محور تصديه يرتكز على عقل مفكر يتولى تحليل الغاز الحاضر في المدنيات الغربية لتلمس مخاوف ومشاق وغموض المستقبل.كان لتناول المفكر الفرنسي ” ادغار موران” في نقد الحضارة الغربية التي تغولت حقاً في منتجاتها الرقمية لتؤكد ثمة تلازم بين حركة التاريخ الشبه بربرية مع منتجات المدنية الحديثة والتي امست خطراً يهدد العلاقات الانسانية القويمة وتوازن الفرد النفسي وهو ما أطلق عليه” ادغار موران” بجودة الحياة. اذ ما قدمه البازعي في كتابه هموم العقل هو اقرب الى التفكيك النقدي للحضارة الغربية من زاوية موران ، وهو امر يكاد يغيب لدينا نحن مثقفي الشرق لكثرة الخوض بأدوات هي اقرب الى العمى الثقافي كما يسميها البازعي في تعريف شرور الحضارة الغربية وهي اقرب الى فكرة ” التعصب الشرقي” عند التقييم المتطرف لظواهر المدنية .
ويبقى التساؤل المهم هو من يقيس “جودة الحياة” في بلداننا المشرقية التي تتلقى صدى المدنيات الغربية على بوابات رقمية سائبة النهايات ربما شبه خالية من جودة الحياة ؟ ربما ثمة خطوط فكرية مازالت تحاول زج ادغار موران في تحليل تضائل جودة الحياة الغربية في اخفاقات الشرق ومشكلاته في التعاطي مع مخرجات المدنيات الغربية الملونة الجودة.
حاول المفكر العراقي حسين العادلي من وجهة نظري ان يفكك ضمناً مايمكن ان اسميه ب(آصرة ادغار موران) في موضوع جودة الحياة بحوارات وتأملات فلسفية التقط الكاتب والمفكر العراقي منها مسائل عصره العراقي الراهن في السياسة والاجتماع والفلسفة بغية ايجاد رابطة جدلية لحركة تاريخ الاجتماع السياسي من روافد دقيقة ليشكل رافداً فكرياً جدلياً في أطراف الشرق والتصدي لصميم الاوضاع الثقافية والاجتماعية الاكثر احتجاجاً والاعظم التصاقاً بهموم العقل العراقي الجمعي (في عصر انفلات اللاعقلانية ).
فعندما تستجمع الافكار ملياً على بوابات العراق المشرقي تجد مشتركات بين البازعي (وتفسيره لجودة الحياة لأدغار موران )و بين (حسين العادلي والتساؤل عن الجودة في تلك الحياة)…حتى يمكن تدارس هموم العقل العراقي دون اجترار لندم تدني الحياة وعذاباتها . اذ يقول العادلي في مفردة :‹‹العَيْن››
• العَيْن كالحاكِم، (ترى) كل شيء ولا ترى نفسها!!
• عَيْن البخيل على (المزبلة) أبداً، وعَيْن السياسي على (السلطة) دوماً!!
• بثلاث عُيُون تكتشف (الحقيقة): عَيْن المرأة، عَيْن المظلوم، وعَيْن السياسي.
• غَسول العَيْن (الدمع)، وغَسول السلطة (الشرف).
• عَيْن النجاة (الإتعاظ)، عَيْن الإتعاظ (البصيرة). وعَيْن البصيرة (حُسن العاقبة).
• عُيُون الأمّة (نُخبها)، فاستدل على (عمى) الأمم بعمى النُخب.
• نَزق العَيْن كنَزق السلطة، الأول (طيشاً)، والثاني (غَطْرَسَةً).
• كما العَيْن مرآة (الروح)، فالسلطة مرآة (السياسي).
وهنا يتدفق الحماس لدي من ينابيعه الساخنة وانا استظل هيامًا فوق كل توقع لاقول:
((اذا كانت العين هي العضو الحساس في تلمس الحقائق ومزج الرؤى وصياغة الوان الافكار ،فانها تبقى بحاجة الى ادوات قوية تحرك قواعد الصدق فيها دون اوهام الكذب والحق دون الباطل وعوامل الخير دون الشر .فمثلما يمكن ان يصيب العين الكذب في التعاطي مع سلوكيات الحياة عند غياب القلب فلابد ان تسبقها الغبطة عندما تتعاطى مع موضوع الضمير ، فقد تتحول عين العطف الى عين الحسد اذا انفصلت عن القلب والى الحقد اذا ضاعت بوصلة الضمير .فالعين والقلب والضمير هم متلازمات ثلاثية لن ينفصل احدهما عن الاخر في التحسس والفعل وتجنب العمى القصدي في التعاطي مع شرائع السعادة الاكثر عطفا والاعمق صدقا والاقوى عبر صناديق الافكار والرؤى الانسانية المتدفقة من حواضر العالم الرقمي حتى أطرافه)).
ولربما دعا العادلي فرصة للتنفيس عن صدره في التصدي لمفردة جادة التلميح قوية الملامح تبحث عن وهي : ‹‹أن›› قائلاً:
• الزمن: أن تأخذ، التاريخ: أن تُعطي. الزمن (استهلاك)، التاريخ (إنتاج).
• أن تتوقف عن المساهمة، فأنت (تحتضر)، وأن تتوقف عن التفاعل، فأنت (ميت).
• أن تكون (حكيماً)، يعني أن تتعلم من الخطأ، وأن تكون (مُصلحا)، يعني أن تتجنب الخطأ.
• أن لا تشغلك (الأسئلة)، يعني أنك تابوت (أجوبة)،.. الحياة أسئلة (تَتْرَى).…
ودون ان اخفي الحذر ، كان علي ان اجد مخرجاً للفخ الذي بات محور التضاد مع مرونة الحياة واطلاق اجنحتها المشرقية ذلك لشدة تجاوب مفردة (الفخ) مع اطروحة ادغار موران في موضوع مصادرة (جودة الحياة) بأجنحة مدنيتها تبقى غريبة كي اقول :((يظل (الفخ )هو من اخطر الجدليات عندما يعد الفرد ( الفخ )لنفسه ثم ينتهي به وهو يقلبه تفاخرا ونفوذا ونرجسية لتاخذه مسرعة الى مدايات خطر الوقوع في الفخ نفسه ذلك عندما تتحرك تلك الفخاخ بالجانب المعاكس .واذكى (الفخاخ) هي فخاخ الحذر التي لايمكن لها اصطياد صاحبها الا من يتمدد عليها من الغبر تطاولاً ، فالحياة لعلبة فخاخ بين منهزم ومنتصر .
ففي علم اقتصاد الاسواق هناك توازن يسمى توازن ناش Nash equilibrium والذي يعني معرفتك لفخاخ او استراتيجيات غيرك ومعرفة غيرك لفخاخك او استراتيجياتك ، ستجعل الاطراف في حالة تحسب معرفة بتبادل المعلومات ليتداولها بعضهم البعض، ذلك دون ان ينصب احد الطرفين شركاً للاخر)).
وهكذا ستبقى (فخاخ ناش او توازن ناش )من اجود الفخاخ اتزاناً وحذراً واملاً واستقراراً لبلوغ جودة الحياة.
..انتهى..