(الولد سِرُّ أبيه).. حكاية علي ابن سمير صبيح
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
قبل أن يظهر (السونار)، ونعرف جنس الجنين من خلال التصوير بالموجات فوق الصوتية، او التصوير بالرنين المغناطيسي، كانت بعض الأشياء البسيطة التي تقوم بها الأم الحامل، كالنوم على الجنب الأيسر، أو اشتهاء بعض الأكلات دون غيرها، دليلاً على توقع نوع جنس الجنين إن كان ذكراً سيأتي، ام أنثى!
وقد كان الكثير من الآباء يتوجهون بالدعاء الى الله، ليرزقهم بولد صالح، والبعض يتجه الى أضرحة الأئمة والأولياء الصالحين، يرجو ولداً يحمل اسمه، وثمة من يدعو في صلاته، وينذر في صيامه، وينتخي ربه في طواف حجه، وليس في قلبه، أو على لسانه، غير مطلب واحد: ولد يكون عكازاً له في سنين شيخوخته، وكفاً رحيمة تداوي اوجاع أمه في كبرها، وستراً عالياً، ودريئة لأخواته بعد رحيله.
نعم، فهذا ما كان يتمناه الآباء العاديون.. ولكن ماذا كان يتمنى الشعراء، وهل سيدعون ربهم أن يرزقهم ولداً وليس بنتاً، وهم الذين يتساوى لديهم الولد والبنت كأسنان مشط عاجي، أو مثل العينين الاثنتين، اللتين يرى فيهما الشاعر مباهج الدنيا وجمال الحياة، فكيف يميز بين عين وأخرى؟
لذلك، كان الامر صعباً على شاعر مثل (سمير صبيح).. شاعر لا يفرق بين قصيدة وأخرى من قصائده، فكل واحدة كانت قد ذبحته ذبحاً في كتابتها، ولكل قصيدة حكاية مرسومة بين حدقتي عينيه، ولها ذكرى مخطوطة حروفها على (جدران) قلبه.. لذلك كان لايكترث إن جاءه ولد أم بنت، فكلاهما جاء من صلبه، وكلاهما ولدا من فيض نهر أمهما المتدفق بالعطاء والحنان.
إذن، لم يكن سمير صبيح يرغب قطعاً بولد يأتي على حساب بنت ستولد .. فهو شاعر، والشاعر كائن مختلف عن الآخرين .. هكذا هو، وهكذا ينتهى عنده الأمر، سيّان .. ولد ام بنت.. !
لكن شيئاً ما وشوش في أذن (سمير) ذات ليلة، وهو يقول له كلاماً، فيه
نبوءة خطيرة: اطلب من ربك ياسمير ولداً، ولداً يحفظ اسمك، ويحرس قصائدك من الضياع، ويقاتل من أجل الحفاظ على كنز ابداعك، ويمنع عنه أيادي اللصوص الطويلة، وجشع تجار الثقافة، ويحميك عن (غيرة) بعض الشعراء التي تفوق غيرة النسوان أحياناً، انت بحاجة الى ولد يقيم الدنيا ولا يقعدها حين ترحل عن الحياة مبكراً !
فنهض سمير من مكانه في الحال، وارتدى وجعه وحزنه، لكنه مشى متفائلاً، حاملاً في صدره الأمل والأمنيات الخضر، قاصداً ضريح الأروع بين الرائعين في التاريخ، علي ابن أبي طالب، ولم يقصد غيره ! وقف سمير قرب شباك علي، المكتنز بالدعوات والدموع والشهقات والأنفاس الموجوعة، والصاعدة من النفوس المحرومة والمظلومة أبداً، وبكل ما في موهبته من قصائد وأبوذيات، وما في صدره من حب لأبي الحسن، قال له بهمس شفيف: (يا علينا الحبيب)، جئتك طالباً، شاكياً، باكياً، راجياً. فثمة من أنبأني أن عمري لن يكون طويلاً جداً، وأن قصائدي ودموعي وأزهاري وبيتي وعيالي، وبستان آمالي الذي زرعته شتلة شتلة، ونخلة نخلة، سيكون في غيابي بلا أسوار، ولا (ناطور)، فيا أبا الحسن أريد بجاهك عند الله، ولداً أسميه (علياً ) .. ولداً من صلبي، يحمي بيتي، ويحرس قصائدي، ويحفظ ثروتي الاجتماعية والاخلاقية والوطنية.. سأسميه، (علياً) تيمناً بك واعتزازاً باسمك الكريم سيدي ..
نهض سمير بعد أن شدّ خيطاً أخضر على شباك الضريح، ومسح دموعه، ثم صلى ركعتين لوجه الله، وحمل نفسه عائداً الى بيته وقد شعر بفرح غامر، كأن طيراً مسحوراً يخفق بجناحيه في صدره، وثنايا قلبه، فيبعث فيه شعوراً لم يمر بمثله من قبل قط..
ليلتها، عاد ذلك الصوت اليه، ليوشوش في أذنه مرة اخرى، قائلاً له: مبارك لك (علي) يا أبا علي!
بعد شهور رزق الشاعر سمير صبيح بولد أسماه (علي).. فكان مولده بشارة خير لأبيه، وللأسرة كلها..
فنما (علي) وكبر في كنف أبيه، محاطاً بالحب، والاهتمام من الجميع.. وكان كلما يكبر اسم سمير صبيح ويتألق، ويعلو شأنه في سماء الشعر، والاعلام، والابداع، كان ولده علي يكبر معه، ويتألق أيضاً..
حتى طرقت المنية باب سمير يوماً، لتخطف روحه النقية، وتأخذه منا وهو في عز شبابه، محققة ذلك الرحيل الموعود، الذي تنبأ به ذلك الصوت قبل اكثر من ربع قرن ..
لقد مضى سمير صبيح الى مثواه الأخير، وهو ينال حباً وتعاطفاً لم ينله شاعر شعبي قبله، فخرج في تشييعه من لم يخرج في تشييع احد من قبل..
وما أن أسدل الستار على حياة هذا الشاعر النبيل والكريم والشجاع، حتى شمّر ولده (علي) عن ساعديه بهمة عجيبة، ناذراً نفسه، ووقته، وكل جهده لاكمال رسالة أبيه الوطنية والابداعية.. باراً، وفياً، مع أمه وجميع افراد أسرته، حافظاً لذكرى أبيه العطرة بكل صدق واخلاص، فقام أولاً بالتصدي الى احدى الجهات التجارية التي استغلت رحيل أبيه، لتقوم بطباعة قصائده في كتاب سيء شكلاً وطباعة، وتبيع نسخه في الاسواق، وقد تمكن علي من ايقاف هذا المشروع وانتزاع حق ابيه من الأنياب المفترسة.
ولم يكتف بذلك، بل قام بجمع كل اعمال والده الشعرية في كتاب يطبع خارج العراق طباعة فاخرة، وقد شرفني بكتابة مقدمة لهذا الكتاب الشعري، فكتبت مقدمة تستحقها شاعرية صديقي أبي علي.
وهكذا تحققت أمنية سمير صبيح الاولى، حين أراد ولداً يحفظ ويحمي له تراثه وقصائده.
وهل اكتفى علي بذلك؟
طبعاً لا، فقد أقام بالتعاون مع منظمة (نخيل عراقي) مهرجاناً شعرياً فخماً في قاعة المسرح الوطني، شارك فيه كوكبة لامعة من شعراء القصيدة الشعبية في العراق، تغنوا بروعة وتاريخ وانجازات (المدرسة) سمير صبيح، وبحضور جمهور غصت به مقاعد وممرات المسرح الوطني، على الرغم من أن المهرجان أقيم في الوقت نفسه الذي كان يقام فيه كلاسيكو الارض بين فريقي برشلونة وريال مدريد، حتى أن الشاعر مجاهد أبو الهيل، قال في كلمته، بما معناه (لقد تغلب كلاسيكو سمير صبيح على كلاسيكو البرشا والريال)!
وهل اكتفى علي بذلك؟
طبعاً لا، فقد فاجأني في أمر كان يحتفظ به سراً، لكني سأحرق المفاجأة وأفشي السر: لقد تم انجاز تمثال كبير للشاعر سمير صبيح، وسيكون هذا التمثال الذي أطلعني ولده عليه، نصباً مضيئاً في احدى ساحات بغداد البارزة، ومتناسباً مع قيمة هذا الشاعر النبيل!
وطبعاً لم يتوقف (علي)، فثمة الكثير الذي فعله لأبيه، والذي لايسع لذكره المجال هنا حتماً..
إذن، عليٌ لم ولن يتوقف عن الوفاء لأبيه شاعراً ووالداً وانساناً ومعلماً .. فكلما رنّ هاتفي باتصال من (علي)، كلما توقعت عملاً جديداً وجميلاً يخص أباه، يشتغل عليه هذا الفتى الرائع، ويريد أن يطلعني عليه..
واذا كنا لا نعرف أول من أطلق عبارة (الولد سرّ أبيه)، فإننا نعرف حتماً أنّ علياً هو سر سمير صبيح، شبيهه، وظله، وحلمه، أليس الولد سرّ أبيه؟.