كميت.. مسقط الرأس، وموطن القلب، وعاصمة ( البو دراج) ..!!
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لم تكن (كميت) مسقط رأسي وأغلب أفراد اسرتي فحسب، بل هي موطن قلبي أيضاً، وهي الحبيب الأول، والمنزل الاول، والعشق الأول.. ولن أزايد على الشاعر أبي تمام حين قال: (نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى..ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيب الأَوَّلِ. ..
كم مَنزِلٍ في الأَرض يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينهُ أَبداً لِأَوَّل مَنزِل )..
ولأن كميت المنزل الاول والحبيب الأول، فقد كان قلبي يخفق بشدة عجيبة، بل ويهتز مثل سعفة في مهب الريح كلما مررت على السهم الموضوع في الشارع العام، والذي يحمل كلمتين: إلى كميت.
لحظتها يوجعني قلبي وكأنه يقول: استدر يارجل وامضِ إلى حيث البيت الذي ولدتَ فيه، وقبّل ذا الجدار وذا الجدار، إذ ليس من المروءة ولا من الوفاء أن تمر مرور الكرام على الحبيب الأول !!.
وهكذا وجدت نفسي متناغماً مع هذه الرغبة الحميمية، اذ حالما انتهيت من اجراءات البطاقة الوطنية في دائرة أحوال كميت المدنية، حتى اتصلت بالشيخ علي فاخر، أحد أبرز شيوخ عشائر البودراج في محافظة ميسان، والوجه الاجتماعي المعروف في ناحية كميت بل وفي كل محافظة العمارة .
فصاح بلهجته الجنوبية العذبة: هله بالعزيز – بكسر حرف العين – أبو حسون الغالي..
وقبل أن أجيبه قال: خويه إنت وين .. بالعراق .. لو بالخارج .. ؟
قلت له: بالعراق وتحديداً بكميت !!
فقال: هاي خوش بشارة .. الله يبشرك بالخير ..
قلت له: أبو حسين لحظة .. ترى آنه متوجه هسه للعمارة، والليلة معزوم عند جماعتي الفنانين والشعراء كاظم فندي وسعدون قاسم وبعض المحبين بالولاية..!
فصاح غاضباً: عمي إنت تحچي صدگ چذب .. يا فنانين ياشعراء .. إنت من كل عقلك توصل كميت وما تزور أخيّك، ولا تطب لمضيفه .. هاي وين صايرة وين دايرة ..؟!
قلت له: أتشرف بيك وبمضيفك، وباچر أتعشه عندك حتماً ..
فقال: إسمع أبو حسون .. وحق قمر بني هاشم العباس، اذا باچر ما تجي وتتعشى عندي، بعد لساني ما يطخ بلسانك للموت !!
قلت له: وداعتك باچر عندك آني ..
وهكذا سمح لي الشيخ علي فاخر أن أذهب إلى العمارة، والتقي أحبتي ..
عود كاظم فندي ودموع سعدون قاسم ..
حين وصلنا العمارة، اتصلت بصديقي أسامة صدام (أبو زيد) الداينمو المحرك لسفرتنا، والرجل الذي أخذ على عاتقه ترتيب جميع متطلباتنا في هذه السفرة.. بخاصة وأنه أحد المسؤولين في دائرة أحوال كميت المدنية، والصديق الشخصي للفنان الكبير كاظم فندي والشاعر الجميل سعدون قاسم، والعمود الفقري للمجموعة الطيبة التي تضم كاظم وسعدون وجبار محيبس شلغم ( أبو ميثم) وفيصل أبو رضا وغيرهم، وهذا يعني أن الرجل سيكون معنا في كميت لإنجاز البطاقة الموحدة، ومعنا أيضاً في السهرة التي سنقضيها في بيت الصديق أبو ميثم في مدينة العمارة ..
وقبل أن اتصل به، كنت قد حجزت غرفتين في أفضل فندق في ميسان، وقد فعلت ذلك كي أجبر أصدقائي في مدينة العمارة على التخلي عن فكرة المبيت في بيوتهم، فأنا ابن العمارة وأعرف جيداً كرمهم، بل وزعلهم حين يبيت صديقهم في الفندق، وابواب بيوتهم مشرعة لكل ضيف قادم..
و هكذا تخلصت من الحرج والالحاح مسبقاً ..
و بعد ساعات قليلة، صرنا في بيت أبي ميثم، حيث حديقة المنزل الواسعة، وبين هذه الكوكبة من المبدعين والأصدقاء (السميعة) الذواقين، عزف وغنى لنا الملحن الفذ كاظم فندي ألحانه التي قدمت بأصوات الفنان سعدون جابر والفنان كريم منصور،ومن بينها: (بس تعالوا.. واجتني الصبح، اللتان كتبهما الشاعر سعدون قاسم، واغنية (على الله وعاد يوفون، وحبيتك حب لهفة بلهفة)، اللتان كتبتهما قبل حوالي أربعين عاماً)، كما أسمعنا كاظم فندي ألحانا جديدة رائعة لم يعطها للمطربين بعد ..
وبينما كان كاظم يغني، راح سعدون قاسم يبكي بحرارة ولا يتوقف عن البكاء إلا بعد أن يتوقف كاظم عن الغناء، علماً أن سعدون فعل الشيء نفسه حين قرأت بعضاً من قصائدي، إذ ظل يبكي مع كل بيت أقرؤه .. وحين سألته عن سر هذه الدموع والبكاء المتواصل خاصة وأنه لم يكن يبكي في الجلسات القديمة التي كنا نعقدها قبل اكثر من اربعة عقود !
فقال: مو قليل المر عليه يافالح مو قليل ..!
في الساعة الثانية من بعد منتصف الليل ختم كاظم فندي سهرتنا مجبراً بعد أن خرٌبت حرارة الجو التي وصلت درجتها إلى الخمسين، أحد أوتار العود، وتعطل الغناء، وانتهت الجلسة، بعد ان شبعنا من الشعر والغناء والتذكر الجميل ..
وهنا أود أن استغل هذا التحقيق لأشكر أخي ( جبار محيبس شلغم) وعائلته الكريمة على كرمهم ونبلهم وعطر محبتهم الزكي الفواح ..
في مضيف الكرم الدراجي
كان موعدي مع الشيخ علي فاخر الدراجي مساءً، وهذا يعني أن ( عزيمتنا) ستكون في العشاء، ثم نغادر -إن سمح لنا الشيخ بالعودة إلى بغداد ليلاً – لكن ظرفاً اجتماعياً طرأ فجأة، استدعى عودتنا إلى بغداد قبل حلول الظلام.. فطلبت في الصباح من صديقي ورفيقي في هذه السفرة (عباس غيلان)، أن نسافر إلى كميت وتحديداً إلى مضيف الشيخ (ابو حسين) لنسلم عليه، ونعتذر منه، ونكمل طريقنا إلى بغداد .. لكن المشكلة كانت في الطريقة أو الحجة القوية التي سنسوقها بحيث تُقنع الشيخ بما نقدم عليه.. في الطريق استقبلنا الأخوان حسنين ستار جبار السعد، وحسن شنون، وقادانا إلى المضيف.. وهناك كان ابو حسين ينتظرنا بقامته الباسقة، وحوله يلتف اولاده عباس وسجاد وجعفر وباقر وعلي رضا وغيرهم .. قلت في سري وأنا أشجع نفسي قائلاً: ( يلله أبو حسون أطلقها ولا تستحي )!!
اقتربت من الشيخ ونحن نتجول في المضيف المهيب والمزدحم باللوحات الفنية التعبيرية الكبيرة الباهرة، وهو يشرح لي كل لوحة وما تعبر عنه، ثم أوقفته بلطف وقلت له: أبو حسين صار عندي شغل عائلي مهم جداً، ولولا غلاتك ومعزتك عندي لذهبت إلى بغداد مباشرة ولن اتوقف في كميت !
فصاح الشيخ: أنا أبو حسين .. خو ماكو شي خويه.. ؟!
قلت: لا والله أكو شغلة عائلية تتطلب حضوري قبل المساء ..!
نظر اليّ بعينيه الواسعتين، ومسح على شاربه الكث وقال بمودة ولهجة أفرحتني:
إذا الشغلة تستدعي عونة، ذوله أخوتك وخدامك كلهم يمك، وإذا مال وفلوس، أخوك حاضر، وإذا تريد تشرد من العشه ، أخليهم هسه يولمون ويحضرون الغده بدقايق .. كلهن آنه حاضر لهن..
قلت له: كفو منك أبو حسين .. هذا شأن وطبع البودراج شيوخاً وعامة .. سواء إنت أو شيخ عموم البودراج علي الشعلان، أو أي شيخ من شيوخ العشيرة الكرماء النجباء ..
وخلال ساعة ونصف لا أكثر نصبت السُفرة الواسعة وحضر السمك العماري البني، مع طيور ( السمان) اللذيذة، واشكال الرز العنبر، وأصناف مختلفة من الأطعمة الطيبة التي طبخت خلال تسعين دقيقة ولا أعرف هنا كيف ومتى تم اعداد وطهي هذا الطعام الشهي والوفير.. ولعل الأمر الذي لفت نظري أن شيخ عباس ابن الشيخ علي فاخر جلس على ركبتيه، بكل تواضع واحترام رغم مهابته ولحيته البيضاء، يقطع و( يفلٌس ) اللحم والسمك، ويضعه امامي وأمام رفيقي عباس، وكان الشيخ علي فاخر يقوم هو الآخر بمثل ما يقوم به اولاده .. إنها أخلاق أبناء العمارة، وكرم البودراج المعروف بلا تحيز أو مجاملة لأخوتي الكرام ..
على باب بيتنا القديم ..!
استأذنت الشيخ في الذهاب بعد أن اصطحبني بجولة قصيرة بين بيوت ابنائه المحيطة بقصره العامر، كما أراني طابق المهندس محمد صاحب الدراجي، وحين سألته عن هذه التسمية، قال: أنت تعرف أن أخانا محمد ( أبو يوسف) يزور كميت باستمرار، خصوصاً في موسم الربيع، فنذهب معه إلى صيد الطيور في البر، وقضاء أشغاله إن كان مجيئه ايفاداً للعمل، وكي لايذهب إلى الفندق مثلك، أقمت له هذا الطابق وفيه سرير مريح وحمام شرقي وغربي، وفيه ايضاً نوافذ واسعة مطلة على دجلة والخضرة الفاتنة.. إنه أخي وابن عمي وأنا احبه جداً .. ثم أطلق الشيخ ضحكة وهو يقول: لذلك أسميته طابق أبو يوسف..
غادرت مضيف الشيخ متوجهاً إلى مدرستي القديمة- مدرسة كميت الابتدائية للبنين – ثم إلى سوق المدينة القديم، الذي لم يتغير فيه شيء طيلة ستين عاماً، والتقيت ببعض الاحبة من ابناء كميت، ثم مضيت إلى الأزقة والبيوت القديمة.. حتى وصلت إلى بيتنا – بيت جدي عيسى العزوز- الذي يقع على مسافة مائة متر من السوق.. وقفت على حائطه وبابه وطابوقه الذي لم تتغير فيه طابوقة واحدة .. وبكيت .. بكيت .. حتى سحبني الأخ حسنين السعد الذي رافقني وأرشدني إلى بيتنا، البيت الذي فيه رائحة أمي وأبي وأخوتي، تلك الرائحة التي ظلت متجذرة في ارض وطابوق وكل زوايا البيت رغماً عن أنف الزمن ..!