المقالات

حين تسقط الريشة… لا لتكتب، بل لتحذّر

بقلم: نورا المرشدي ..

في الأزمنة القديمة، كانت الريشة مرادفًا للكلمة.
بها خُطّت الرسائل، ودوِّنت العهود، وسُجِّلت المشاعر على ورق العمر.
ريشة النسر، أو الهدهد، أو حتى الغراب… لا يهم، ما دامت تُغمس في الحبر وتكتب ما لا يُقال وجهًا لوجه.

الريشة لم تكن مجرد أداة.
كانت طقسًا من طقوس الصدق.
حين تمسكها، تُجبرك على التمهّل، على التفكير، على احترام المعنى قبل أن تنقله.
لم تكن الكتابة بها مجرد فعل… بل مسؤولية.
كأنك توقّع على مرآتك الداخلية، وتُخرج صوتك بأقل قدر من الخيانة.

أما اليوم…
فقد تغيّر وجه الريشة.
لم تعد تُغمس في الحبر، بل في الصمت.
لم تعد تكتب، بل تسقط فجأةً في العش، أو تظهر على عتبة باب، أو فوق منضدة مهجورة.
ريشة سوداء.
لا تحمل رسالة، بل تُحذّر من رسالة لم تُكتب.
تصل متأخرةً، بعد أن فات الكلام موعده، وبعد أن تعفّن المعنى في الحناجر.

في أحد البيوت، لفتتني ريشة سوداء كبيرة في عش حمام على حافة نافذة.
لم تكن مجرد ريشة طائر سقطت عرضًا.
كانت، بالنسبة لي، نداءً صامتًا.
كأنها تقول:
“هناك شيء اختل، شيء كُتم، شيء لم يُقال حين وجب أن يُقال.”
كأن الريشة كانت تقول لي:
“زمان الكلمة مرّ… والآن زمن التحذير.”

لقد أصبحت الريشة علامة الصمت، لا التعبير.
تحلّ في الأماكن حين تختنق الحقيقة، حين لا يعود للكلمات صوت، ولا للكتابة أثر.
لقد تحوّلت من رمزٍ للحضور… إلى إشارةٍ للغياب.
من أداة تصنع التاريخ… إلى ظلّ يُنذر بنهايته.

فهل ما زلنا نستحق ريشة نكتب بها؟
هل ما زال الحبر نقيًا بما يكفي ليكتب ما نخجل من قوله؟
أم أن الريشة السوداء ستظل تطل علينا، كلّما صمتنا أكثر مما ينبغي، وتراجعنا أكثر مما يليق، وتركنا المعاني تتعفن في صدورنا دون أن تجد طريقها إلى الورق؟

حين تسقط الريشة… لا لتكتب، بل لتحذّر

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى