غضب من استنزاف عائدات النفط الكردي
بقلم : باسم فرنسيس …
تتراكم ديون إقليم كردستان العراق لتصل إلى نحو 30 مليار دولار (أ ف ب)
منذ أيام تسود إقليم كردستان العراق حالة من الغضب وسط سجالات حامية على الصعيدين الشعبي والإعلامي، إزاء تقارير محلية ودولية تشير إلى هدر “مخيف” في العائدات وتفاقم في مستوى الفساد، فيما تزداد معاناة الإقليم من أعباء ناجمة عن أزمة اقتصادية مزمنة، وتراكم للديون التي تصل إلى نحو 30 مليار دولار.
ويواجه الحزبان الرئيسان الحاكمان في الإقليم شبه المستقل عن بغداد، “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني، و”الاتحاد الوطني” ومؤسسه رئيس الجمهورية الراحل جلال طالباني، النصيب الأكبر من الانتقادات واللوم على سلسلة الأزمات التي تضرب الإقليم منذ أعوام، جراء سوء الإدارة و”التنافس على احتكار العائدات”، في ظل استمرار الانقسام الإداري والفساد.
هدر مهول
تقرير لشركة “ديلويت” المكلفة بالتدقيق في حسابات القطاع النفطي الكردي، أثار ردود فعل غاضبة على حجم النزيف في العائدات، إذ كشف أن الإقليم “صدّر خلال النصف الأول من عام 2021 أكثر من 77 مليون برميل من النفط عبر الأنابيب، فضلاً عن 4 ملايين برميل للاستهلاك المحلي، بمعدل سعر يصل إلى 53 دولاراً للبرميل”. وأوضح أن “قيمة العائدات بلغت 4 مليارات و100 مليون دولار، وحصلت حكومة الإقليم على مليار و737 مليون دولار، فيما كان المبلغ المتبقي من حصة الشركات العاملة ونفقات النقل وغيرها”.
عضو لجنة “الطاقة والثروات الطبيعية” النيابية كاروان كزنيي اعتبر ما جاء في تقرير شركة “ديلويت” أنها “معلومات مخيفة حول الهدر المهول في عائدات النفط”، وقال إن “العائدات وفقاً للتقرير بلغت 4 مليارات و127 مليون دولار، في حين أن النفقات كانت 2 مليار و300 مليون دولار، وما تبقّى للحكومة كان ملياراً و700 مليون دولار فقط، أي 289 مليون دولار لكل شهر”، وبيّن أن “ذلك يعني أن حكومة الإقليم حصلت على 42 في المئة فقط من العائدات مقابل 58 في المئة للشركات، من ضمنها أجور شركة كار (مقربة من حزب بارزاني)، وبلغت 454 مليون و413 ألف دولار، ورسوم شركة الطاقة التركية التي بلغت 172 مليون و140 ألف دولار، بينما كانت مستحقات الشركات المستخرجة نحو مليار و400 مليون دولار، في وقت أن هذه الشركات تعمل في الإقليم منذ 14 عاماً”.
وكانت الحكومة الكردية أعلنت في مايو (أيار) عام 2014 عن لجوئها إلى بيع النفط بشكل مستقل، وبمعزل عن الحكومة الاتحادية، إثر تفاقم الخلافات بين الحكومتين، واتخاذ بغداد قراراً بقطع حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية.
وعلى الرغم من الإعلان لاحقاً عن توصّل الحكومتين في خريف العام الماضي إلى اتفاق مبدئي، يلزم الإقليم تسليم 250 برميلاً من النفط يومياً، فضلاً عن نصف عائدات الجمارك إلى بغداد، مقابل صرف حصته في الموازنة الاتحادية، لكن غالباً ما كانت الاتفاقات تواجه العقبات، مع تبادل الطرفين التهم بعدم التزام البنود. ومنذ أشهر، تمنح بغداد الحكومة الكردية سلفاً مالية لدفع رواتب الموظفين، كإجراء مؤقت لحين تطبيق بنود التفاهم السابق مطلع العام المقبل.
ديون الشركات
كزنيي نوّه إلى أن “حكومة الإقليم تقول إنها ما زالت مديونة للشركات، فضلاً عن نفقات أخرى تبلغ نحو 400 مليون دولار، وهذا المبلغ ليس ذا قيمة بالمقارنة مع الهدر الحاصل”، وتساءل “بأي منطق عادل تبيع الحكومة نفط بقيمة 4 مليارات، لتكسب أقل من مليارين؟”.
من جهتها، ذكرت النائب عن حركة “الجيل الجديد” في برلمان الإقليم مجدة محمود، أن “الإقليم حصل على 22 دولاراً فقط من معدل بيع سعر البرميل الذي قُدّر بـ53 دولاراً، بينما حصلت بغداد في الشهر ذاته على 70 دولاراً للبرميل”. واتهمت الحزبين الحاكمين “بارتكاب أكبر جريمة بحق شعب الإقليم”، ودعتهما إلى “الوقف الفوري للنهب الحاصل، إذا ما كانا يعيران أية أهمية لسمعتهما وللأخلاق السياسية”.
ويشير نواب ومسؤولون أكراد إلى أن أكثر من نصف قيمة إيرادات بيع النفط عبر الأنابيب إلى تركيا، لا يتم تحويله إلى خزانة الحكومة، مع شكوك تحوم حول “شفافية” عمل شركة “ديلويت” المكلفة تدقيق حسابات النفط. ويحمّلون الحزبين الحاكمين مسؤولية فشل إدارة قطاع النفط ورهن مصير الإقليم باتفاقية تمتد لنصف قرن مع الجارة تركيا.
وكشفت رئيسة برلمان الإقليم ريواز فائق أخيراً عن أن “عائدات النفط الشهرية تُقدّر بـ900 مليون دولار، لكن ما يدخل إلى خزانة الحكومة لا يتجاوز 350 مليوناً، وأنا شخصياً أجهل الحجم الحقيقي والفعلي للعائدات باستثناء تلك التي تعلن عنها وزارة المالية”. وحذّرت من إمكانية سحب الثقة من الحكومة “لتقاعسها في إرسال مشروع الموازنة السنوية”، وذكرت أن “هذه هي الدورة النيابية الثانية التي ترفض الحكومة إرسال الموازنة إلى البرلمان”.
صدمة جديدة
في غضون ذلك، تعرّض الإقليم لصدمة جديدة مع إعلان شركة “جينيل إنرجي” النفطية البريطانية في بيان الجمعة 10 ديسمبر (كانون الأول) 2021، أنها “ستقاضي حكومة إقليم كردستان لانتهاكها عقدي مشاركة في الإنتاج، في شهر أغسطس (آب) الماضي لتطوير حقلين للغاز الطبيعي”. وتقول الشركة إنها أنفقت “حوالى 1.4 مليار دولار على المشاريع”، وأكدت أنها “اضطرت إلى قبول إنهاء عقدي مشاركة الإنتاج نتيجة لخرق حكومة كردستان التعسفي، وستطالب بتعويضات من حكومة إقليم كردستان التي ستكون كبيرة”.
وسبق أن خسرت الحكومة الكردية قضية مماثلة في لندن عام 2017، ضد شركة “دانة غاز” الإماراتية وشركائها بتسوية بلغت 2.24 مليار دولار.
تقرير شركة “ديلويت” كشف أيضاً عن “إيقاف أموال تُقدّر بنحو 294 مليون دولار و310 ملايين يورو من عائدات نفط الإقليم، كانت مودعة ضمن حساب مصرفي في بيروت”، من دون ذكر اسم المصرف، وأشار إلى أن المبلغ “أودع في الربع الأول من عام 2021”.
وعلّق النائب عن كتلة “التغيير” علي حمه صالح عبر “فيسبوك” قائلاً إن الأموال المحتجزة في لبنان “مودعة باسم شخص يدعى مرتضى لاخاني، باكستاني الجنسية”، وزاد “سبق أن كشفنا وبشكل دقيق ومفصل عن حجز أموال في لبنان عبر الوسائل القانونية ومن خلال البرلمان، ورفعت دعوى قضائية ضد الأشخاص المشتبه فيهم من دون أن يتم فتح تحقيق مع أحد، والحكومة موقفها دائماً كان النفي”.
ويرى صالح أن “تلك المبالغ المتحصلة من العائدات النفطية تقدر بمئات الملايين من الدولارات، إما أنها هُرّبت، أو احتُجزت، أو دُفعت كرشاوى”، مشدداً على “أهمية وضرورة إعادة هذه الأموال في هذه الظروف المتأزمة التي يمرّ بها الإقليم”.
وكان الإقليم الذي يبيع النفط بمعزل عن بغداد، امتنع في الماضي عن دفع مستحقات شركات النفط، عندما كشفت تقارير صحافية عن عجزه سحب نحو مليار دولار من أمواله في بنك لبناني، بعد الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي ضربت لبنان بموازاة انهيار أسعار النفط.
استمرار الفساد
وأعلن رئيس هيئة النزاهة في الإقليم القاضي أحمد أنور خلال مؤتمر صحافي الخميس 9 ديسمبر، عن “تسجيل 445 دعوى قضائية تتعلق بقضايا فساد خلال عام 2021، في مؤشر إلى ارتفاع واضح في عدد القضايا، بالمقارنة مع الأعوام المنصرمة والتي تبلغ 560 فقط، ولم تجتَز مرحلة التحقيق بعد”، لافتاً إلى أن “التحقيق يجري حالياً في أكثر من 80 ملفاً، فيما تم حسم 136 ملفاً”.
وقال أنور “العام الحالي، سنشهد حسم 94 ملفاً آخر من قبل القضاء، وما زال هناك 123 ملفاً لم تُحسم بعد قضائياً”، وبيّن أن “عملية حسم هذه الملفات سارت بشكل أفضل بالمقارنة مع العام الماضي نتيجة القيود التي فرضت حينها بسبب وباء كورونا”.
ودعا نائب رئيس البرلمان عن كتلة حزب بارزاني هيمن هورامي، إلى “تطوير النظم القانونية وعملية الإصلاح وتقوية المؤسسات المعنية، من خلال البرلمان وتوافر إرادة قوية لدى القوى السياسية”، وأقرّ في ندوة أقيمت بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، بأنه “على الرغم من استمرار مشروع الإصلاح، فإن الفساد لم يُقتلع من جذوره”.
وللحد من وقع الأزمة المالية المتفاقمة، اتخذت حكومة أربيل جملة من القرارات التقشفية، وأقدمت على خفض النفقات ورفعت من نسب الضرائب والرسوم، مع تعليق صرف المخصصات الإضافية للموظفين والترقية في الدرجات الوظيفية، بغية تأمين المرتبات الشهرية لموظفي القطاع العام، الذين تبلغ أعدادهم نحو مليون و250 ألفاً، من مجموع سكان الإقليم الذي لا يتجاوز 6 ملايين نسمة.
إصلاحات واسعة
لكن الحزبين في المقابل، يقولان إن حكومتهما وضعت خططاً واستراتيجية لإجراء إصلاحات واسعة، والتي دخلت مرحلتها الثالثة في ملفات عدة، على صعيد الإدارة والنفط ومفاصل المؤسسات كافة.
وقالت رئيسة البرلمان، ريواز فائق، عن “الاتحاد الوطني” في كلمة بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، الخميس الماضي، إن “الإقليم يعاني منذ سنين أشكالاً مختلفة من الفساد، والنتيجة هي ما نعيشه اليوم من حالة مؤسفة، لذا قام برلمان الإقليم بتشريع ثلاثة قوانين مهمة وضرورية لتنظيم ودحر الفساد، وأهمها قانون رقم (2) لسنة 2020، قانون الإصلاح في الرواتب والمخصصات والمنح والامتيازات، وقانون منع تهريب النفط والغاز، وقانون تضمين الموظفين في ٳقليم كردستان، رقم (5) لسنة 2020”.
ودعت إلى “الإسراع في خطوات الإصلاح وتفعليها لتنفيذ القوانين المشرعة، والإقرار بحقيقة أن بقاء أية سلطة منوط بحماية المصالح العليا للمواطنين وكسر التحديات والخضوع للمساءلة، وتشكل استقلالية المحاكم وحماية مبادئ الديمقراطية من الأسس الرئيسة والمهمة لهذه الأهداف”. كما حثت “الجميع على التحلي بروح المسؤولية في المرحلة الحساسة من دون خوف من أي تحدٍ أو عائق، وأن ينقذوا كردستان من المآسي التي تعانيها بسبب عدم الشفافية وانعدام العدالة الاجتماعية وعدم المساواة في التوزيع”.
غسيل الأموال
وبالتزامن، أثار تحقيق استقصائي نشرته مجلة “American Prospect” عن امتلاك رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني مباني ومحال تجارية في الولايات المتحدة الأميركية عبر شركات وهمية، وحينها طالبت ردود أفعال غاضبة بفتح تحقيق عاجل.
وبحسب التحقيق الذي أنجزه صحافي أميركي يُدعى زاك كابلن، فإن “بارزاني اشترى مباني تجارية وقصوراً في ولايات فلوريدا وفيرجينيا وكاليفورنيا، وأن أحد المباني تُقدّر قيمته بنحو 18 مليون دولار، من خلال شركة وهمية مسجلة لدى ولاية ديلاوير الأميركية”، مبيّناً أن “الكشف جاء عن طريق الصدفة، نتيجة خطأ ارتكبه إما محامي أو أحد منتسبي الشركة المختصة بالإشراف على الشركات الوهمية، عندما تم ذكر اسم مسرور وشقيقه مخسي، في أوراق الملكية”.
وأشار التقرير إلى أن “البارزانيين ومن خلال النفط، جمعوا كميات هائلة من الثروة، من بينها استثمار عقاري في إقليم كردستان، مملوك لشركة مرتبطة سراً بأحد إخوة رئيس الحكومة، قُدّرت قيمته بـ 1.27 مليار دولار”. يذكر أن موقع “ريل ديل” الأميركي نشر في أواخر عام 2019 تقريراً مماثلاً، ذكر فيه أن “مسرور وشقيقه منصور اشتريا قصرين بقيمة تتجاوز 47 مليون دولار في ضاحية بيفرلي هيلز الراقية في مدينة لوس أنجليس الأميركية”.
في المقابل، نفى مكتب مسرور تلك الادعاءات التي وصفها بـ”الملفّقة”، وقال في بيان إن “كاتب التحقيق استند إلى عقد يزعم أنه يحمل توقيع رئيس حكومة الإقليم، وهذا ليس توقيعه بالمطلق”. وختم “هذه الاتهامات جزء من حملة تضليل تمارس ضد إصلاحات حكومة الإقليم ورئيسها”.
لكن إدارة المجلة الأميركية ردت في بيان أن مصادرها “تستند إلى وثائق رسمية لدى الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة”.
دعوات للتحقيق
ودعت 20 منظمة مدنية محلية كردية في مذكرة وجهتها إلى برلمان الإقليم وهيئة النزاهة والادعاء العام، إلى فتح تحقيق عاجل في “صحة ما جاء في تقرير المجلة الأميركية، والتأكد من مصداقيته والوقوف على حقيقة الادعاءات”. وقالت “في حال ثبتت صحة الادعاءات، يتوجب اتخاذ الإجرءات القانونية، وبخلافه يجب توضيح ذلك للرأي العام الكردي، ورفع دعوى قضائية ضد معدّ التحقيق الصحافي والمجلة الناشرة، لأن التحقيقات الصحافية الملفقة تهدد السلم الداخلي، وتثير الغضب واليأس لدى الرأي العام، وتسيء إلى سمعة الإقليم”.
وذكرت المنظمات أن “التحقيق يأتي وسط أزمة مالية خانقة يعيشها الإقليم، مع توقف للمشاريع الخدماتية، والموظفون يطالبون الحكومة بمستحقات غير مدفوعة لأشهر عدة. ولليوم، فإن المرتبات الشهرية لا تُعطى في مواعيدها، والطلبة يستمرون في احتجاجاتهم للمطالبة بمخصصاتهم، وغيرها من الأزمات”، مبدية استغرابها من “صمت النواب وهيئة النزاهة إزاء تحقيق منشور في مجلة ذات سمعة، والادعاء العام يقاضي أشخاصاً على تعليق في مواقع التواصل الاجتماعي، بينما نجده اليوم أخرساً”.
وحول مدى إمكانية السير بالتحقيق، صرح رئيس هيئة النزاهة أحمد أنور بأن “الهيئة، أو حتى هيئة النزاهة الاتحادية، لا يملكان آلية محددة أو حتى دعم للتحقق من ادعاءات المجلة الأميركية أو في القضايا المتعلقة بثروة المسؤولين في الخارج”، وأردف “أي تحرك من قبلنا يجب أن يتم عبر وزارة الخارجية العراقية، ولا يخفى أن الحكومة الاتحادية بحد ذاتها لم تقُم بأي إجراء لاستعادة أموالها المهربة”.