بقلم : سرى العبيدي ..
نشرت عام ٢٠٠١٧ في مجلة الاهرام المصرية ✍️
سفيرة الجمال والطفولة والابداع الدولي ✍️
يسرد لنا التاريخ قصص عن شخصيات لها سلوكيات عجيبة وغريبة، تصرفاتها بعيدة عن المنطق والعقل. والأعجب من ذلك والأغرب هو إطاعة مجموعة كبيرة من الناس لمثل هذه الشخصيات، أو الخضوع لما تُريدها، فنجد أن أقوالها (هذه الشخصيات) مسموعة ومقبولة، وأفعالها مُلباة ومُرقاة، لسبب أو لآخر. من هذه الشخصيات هو (عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان الفزاري)، يُكنى بأبي مالك، وكان من صناديد العرب، وكان فظاً غليظاً جريء القلب بذيء اللسان والقول.
يُعد نسبه من أعرق الأنساب العربية، ولكل واحد من آبائه وأجداده مئآثر ومفاخر، يكفي أن نذكر هنا أن جده حذيفة كان يلقب في الجاهلية بـ (ربّ معدّ) أي سيد قبائل عدنان كلها لفخامة نسبه ورجاحة عقله وعظم شرفه في العرب، فلا عجب إذاً أن هذا الصنديد الجريء (عُيينة بن حصن) سيد قبيلة غطفان القوية، وكان إذا قام تبعه وقام معه عشرة آلاف رجل من قومه لا يسألونه فيم؟ ولا إلى أين؟ كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أنهم يطيعونه طاعة عمياء لا يسألونه مع من نقاتل؟ ولا لماذا نقاتل؟.
وقد كان في زمن الجاهلية من الجرارين، ويقود معه عشرة آلاف رماح يتبعه أينما ذهب، وكان يقوم بتوجيه أصحابه في أي حرب يريد أن يخوضها فيطيعونه.
وبرغم المكانة المرموقة والنسب الباذخ والشرف العريق والقلب الجريء، إلا أن هذا الرجل كان يعيبه عيب كبير أنه كان أحمق غير ذي رأي حتى قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه (الأحمق المطاع)، وذلك لضياع رأيه وحماقته وقصر نظرته للأمور. والحقيقة أنه لولا لطف الله تعالى وحده بغطفان التي أنجاها منه ومن حماقاته، وإلا كان هذا الأحمق الأرعن سيورد قبيلته المهالك في سبيل آرائه العوجاء وأطماعه الشخصية هو، وليس من أجل قومه، ولا حباً فيهم ولا لمصلحتهم.
ويذكر التاريخ أن (عُيينة بن حصن) له العديد من المواقف الحمقاء والمضحكة التي لا يسع المجال هنا لذكرها، ولكن من أبرز وأشهر مواقفه الحمقاء وقوفه مع يهود خيبر في وقت كان الإسلام يزداد قوة ومنعة، خصوصاً بعد معركة الخندق، التى هُزم فيها الأحزاب، وكان (عُيينة) معهم فرأى بأم عينيه كيف انتصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على أكبر الجيوش التى عُرفت في تاريخ العرب -جيش الأحزاب-، ومع ذلك ذهب بقومه لينصر يهود خيبر، ففاوضه الرسول الكريم على أن يرجع وله نصف ثمار خيبر فرفض، ولكن بينما هم في الطريق سمعوا منادياً يصيح فيهم أن أدركوا أهلكم، فعاد بجيشه مسرعاً لغطفان، فلم يجد شيئاً، ثم كر بقومه مرة أخرى إلى خيبر لينصر اليهود، فوجد الرسول قد فتحها فجاء هذا الأحمق البذيء لرسول الله يطلب منه نصيباً من غنائم خيبر (من سلب حلفائه الذين كان يريد الوقوف معهم ضد النبي) هكذا بكل وقاحة وغباء، ولكن النبي طرده ولم يعطهِ شيئاً.
والحقيقة أن هذا الأعرابي الجلف الفظ لم يكن يهمه نصر اليهود بقدر ما كان يغيظه انتصار الإسلام فجنى على قومه وحرمهم الإسلام مبكرين، وحرمهم أيضاً من المال والخير بسبب تهوره وهوجه وقلة عقله. وفي رواية، إن نبينا نبي الرحمة قال فيه: (إني أُداريه لأني أخشى أن يُفسد علي خلقاً كثيراً).
واليوم نرى أشباه هذا الأحمق المطاع، وهم يصولون يمنة ويسرة، في المجالات السياسية والإجتماعية وحتى الإقتصادية والثقافية، فلا هم بالذين قاموا لطلب الحق والحقيقة فيُصيبونها فينتفعون بها وينفعون أهلهم، ولا هم قعدوا في أوقات الفتن ليتجنبوا مهاويها، بسبب تغليب مصلحتهم الخاصة على المصالح العامة.
وعلى أمثال هؤلاء الأشخاص قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم (إن شر الناس من ودِعَهُ الناس إتقاء شره).
ومن ملاحظات علم النفس على سلوكيات هذه الشخصيات، هي: إنهم سريعي إطلاق الأحكام والقرارت، ومتقلبي الأمزجة، ومتناقضين في الآراء حول قضية واحدة بعد فترة وجيزة، وغيرها من السمات الشخصية، ويرجع سبب هذا كله إلى أن مصدر سلوكهم هو هواهم.
والإنسان الناجح يزن فعله بعقلٍ خاضع لضوابط المنطق، وليس بعقلٍ أسير الهوى والشهوة والنزوات، أو بعقلٍ مأخوذ بنشوة القوة العارمة. ونرى أن الشاعر المتنبي أشار إلى هذا الأمر، حيث قدم الرأي الراجح الرزين على الشجاعة الهوجاء التي في غير محلها والتي تورد صاحبها ومن يتبعه المهالك، حيث قال:
الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ ….. هــو أولٌ وهـي المـقـامُ الثـانـي.
ختاماً، إن الأشخاص على شاكلة (عُيينة بن حصن) يحذرنا الله سبحانه وتعالى من الإستماع لرأيهم واتباع خطواتهم، حيث قال (جلَ وعلى) في محكم كتابه العزيز: {ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وإتبع هواه وكان أمرهُ فُرطاً}. صدق الله العلي العظيم.
تحياتي ومودتي لكم.
السابق بوست
القادم بوست