المقالات

العراق بين الجمهوريين والديمقراطيين: استعادة الديمقراطية لا الاعتذار عنها

بقلم : محسن عصفور الشمري ..

تُثبت فلسفة التاريخ حقيقة يصعب إنكارها: من لا يقرأ التاريخ يظل تابعًا، يُقاد إلى حيث يشاء الآخرون. ورغم أن التاريخ لا يُعاد، فإن تصحيح مساراته ممكن وضروري وملحّ.

في زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية (13 أيار 2025)، أدلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتصريحات لافتة بشأن العراق، ضمن نقده المستمر لسياسات خلفائه من الحزب الديمقراطي، لا سيما أوباما وبايدن، في الشرق الأوسط. ورغم أن تصريحاته حملت قدرًا من الصواب السياسي، فإنها جاءت متأخرة. فالمطلوب اليوم ليس فقط تشخيص الأخطاء، بل السعي الجاد لاستعادة المسار الديمقراطي الذي بدأ مع إدارة جورج بوش الابن، قبل أن ينحرف بشكل خطير خلال حقبة أوباما.

ورغم التحفظات الكبيرة على طريقة التدخل الأميركي في العراق عام 2003، فقد تبنّت إدارة بوش الابن مشروعًا معلنًا لبناء عراق ديمقراطي تعددي، قام على صياغة دستور جديد، وتنظيم انتخابات، ودعم مبدأ التداول السلمي للسلطة. صحيح أن التطبيق كان هشًا، وأن البنية الداخلية للدولة العراقية كانت منهكة، لكن تلك المرحلة مثّلت فرصة تاريخية لصياغة نظام سياسي مختلف عما كان عليه الحال في ظل الجمهوريات العسكرية التي حكمت منذ 1958 وحتى 2003.

التحوّل الحاسم وقع مع إدارة الرئيس أوباما، حين انسحبت القوات الأميركية من العراق دون توفير أي ضمانات لحماية التجربة الديمقراطية الوليدة. لم يكن الخطر محصورًا في الفراغ الأمني، بل تجلى في انزلاق المنظومة السياسية إلى الاستبداد المقنّن عبر مؤسسات الدولة نفسها. ويُعد قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم 55 لسنة 2010 نموذجًا فاضحًا لذلك الانحراف؛ إذ فسّر مفهوم “الكتلة الأكبر” في البرلمان بطريقة أجهضت نتائج الانتخابات، ومنحت القوى المهيمنة أداة شرعية لاحتكار السلطة والتحكم بمصير البلاد.

أدى ذلك القرار إلى نقل الديمقراطية من صناديق الاقتراع إلى غرف الصفقات المغلقة. وبدأت ممارسات الإقصاء تتسيد المشهد، وتعمّقت المحاصصة السياسية، وتكرّست طبقة حاكمة عاجزة عن الإصلاح، ومنفصلة عن تطلعات الشعب.

وفي هذا السياق، فإن تصريحات ترامب حول العراق تُعبّر عن وعي جزئي بمشكلة حقيقية، لكنها تفتقر إلى تصور عملي شامل لاستعادة التوازن. ليس كافيًا انتقاد أوباما، أو الإقرار بأخطاء الماضي؛ المطلوب اليوم هو دعم مشروع سياسي عراقي وطني يعيد للديمقراطية معناها ومؤسساتها. وهذا ما يزال ممكنًا، سواء في ظل احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، أو عبر مراجعة جدّية للعلاقة العراقية الأميركية، من منطلق شراكة لا وصاية.

ولتحقيق ذلك، لا بد من خارطة طريق وطنية واضحة تشمل:
1. مراجعة الدستور العراقي وإغلاق الثغرات التي فتحت المجال للتلاعب.
2. تفكيك نظام المحاصصة السياسية الذي أصبح حاجزًا أمام الإصلاح.
3. ضمان استقلال القضاء كركيزة لاستعادة الثقة بالمؤسسات.
4. تمكين المواطن من مساءلة السلطة وفق أدوات قانونية ودستورية فعّالة.

إن الديمقراطية لا تُبنى بالنيات أو الشعارات، بل بمؤسسات راسخة وضمانات دستورية حقيقية. والعراق لا يحتاج إلى وصاية خارجية، بل إلى شراكة عادلة تحترم سيادته وتطلعات شعبه في الحرية والعدالة والكرامة.

ولا يمكن الحديث عن فشل التجربة العراقية دون الاعتراف بمسؤولية الشركاء المحليين الذين تسلموا السلطة بعد عام 2003. فالكثير منهم أظهروا قصورًا ذاتيًا واضحًا، وافتقارًا للرؤية، فيما اندمج آخرون في أجندات إقليمية مناهضة لمفهوم الدولة الوطنية العراقية. وفي المقابل، جرى تجاهل وإقصاء آلاف الكفاءات العراقية في المهجر، التي كان يمكن أن تُسهم في بناء نموذج سياسي مختلف وأكثر تماسكًا.

استعادة المسار الديمقراطي ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط لبقاء الدولة ومنع تفككها. والمسؤولية مشتركة بين الداخل والخارج، بين النخبة والمجتمع، وبين الذاكرة والتطلعات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى